فيصل عبد الله لندن سائق الشاحنة، الخمسيني العمر، الملتاذ بصمته ووحدته. والممتثل إلى شروط عمله بنقل جذوع الأشجار الضخمة من غابات بارغواي إلى الأرجنتين من دون تبرم، يبوح بعد 85 دقيقة بما كان يخاف البوح به. هكذا، بروية، وتأن، يسرد علينا الأرجنتيني بابلو جيورجيلي في باكورته (لاس أكاسيا)(السنط)،
حكاية بطله روبن (الممثل جيرمان دي سلفا) وتحولاته الدراماتيكية. حكاية مكتوبة بلغة سلسة، تكفلت الكاميرا بترجمة معانيها الجوانية الى نص سينمائي باهر، ما أقنع لجنة تحكيم فقرة أسبوع النقاد، في مهرجان كان الأخير، منحه جائزة الكاميرا الذهبية باستحقاق، ومثلها كرّمه مهرجان لندن السينمائي لهذا العام بجائزة سوذرلاند، تمنح عادة الى العمل الأول او الثاني، لأصالة وقوة نصه عبّر عنه الأداء المحكم لشخصياته، وبما يثير الإعجاب والثناء. مباشرة، ومن لقطته الأولى، يقدم المخرج والكاتب وصاحب الحانة جيورجيلي لمشاهده شخصياته الأساسية. وهي الشابة خثنيتا (هيبي دوراتي)، الحاملة لطفلتها ذات الثمانية شهور، والمتعثرة بحقائب سفرها. بالمقابل يقف روبن قرب شاحنته، والغاية نقل هذه المسافرة من قريتها الى العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، بعد أن رتبت الأخيرة شأنها مع شخص يمت بصلة إلى هذا السائق الجلف، ما يثير حفيظة روبن، ليس منظر الأم المرتبك، بل الطفلة (أناهي)، ومدى قدرته على تحملها في سفرة طويلة. لكنه يقبل عن مضض نقل خثنيتا الى وجهتها الأخيرة، تاركاً إياها تدبّر أمرها من دون مساعدة. وعلى مدار حوالي نصف الفيلم الأول لا ينبس روبن بكلمة، سوى سماعنا لأصوات الشاحنات السالكة للطريق الخارجي، وحركاته المتذمرة وهو يشرب (المتا)، شراب مكوناته من الأعشاب والأقرب إلى الشاي.-بتمهل نتعرف على خثنيتا في نقطة الحدود البرية. وذلك عند سؤال ضابط الشرطة عن سبب زيارتها الأرجنتين. هل البحث عن فرصة عمل؟ لكن الإجابة كانت بسيطة، تتعلق بزيارة الأقارب. وماذا عن الطفلة، مَن الأب؟ تجيب خثنيتا باعتداد وثقة، إنها من دون أب. وما أن تحصل على التأشيرة، تقفل لتعود الى مقعدها جنب روبن. بعدها يأخذ الشريط منحى آخراً. وعبر تقاطع نظرات روبن مع (أناهي) تلك التي بادلته ببسمة طفولية ساحرة. نظرة حركت فيه عاطفة الأبوة المفقودة، وكانت فاتحة للتعرف الى شخصيته. هل لك عائلة؟ تسأله المسافرة خثنيتا. الإجابة كانت حاسمة بـ (لا). ولكنه يعترف بأبوته لطفل تركه منذ ثمانية أعوام عندما كان في الخامسة من عمره. وعلى هذا المنوال يتصاعد البوح تدريجياً في مشاهد ولقطات الشريط اللاحقة، منها نظرة روبن الى خثنيتا وهي نائمة، التي حركت فيه أحاسيس كانت قد غادرته منذ فترة طويلة. فيما جاءت الجلسة بمواجهة بحيرة على قارعة الطريق، ما يمنح أحساس جو العائلة السعيدة.شخصيات جيورجيلي خاطفة ببساطتها الباذخة، ما جعل المشاهد يصبح جزءاً من حبكته وهو على كرسيه، وعبر وضع النهاية السعيدة لأقدار هذين المخلوقين. في النهاية أوصل روبن المسافرة خثنيتا الى بيت أقربائها، وسط استقبال حار وفرح بسلامة الأم وطفلتها تحت شجرة (السنط) الوارفة التي ظللت الجميع. فيما ينسحب روبن بطيئاً من دون ان يتجرأ بقول ما يعتمل بقلبه. بيد أنه في آخر الأمر يأخذ وعداً برؤية خثنيتا ولو على حياء. قوة شريط (السنط) تكمن، أيضاً، في تركيزه على (ثيمته) الأساسية، من دون الانجرار وراء الحوادث الثانوية، وفق ما درجت عليه أفلام الطريق. عمل سينمائي متقشف، عرف مخرجه كيف يوظف تقنيات الصورة، صور بطريقة اللقطة المقربة والطويلة، بنقل نص من عشرين صفحة في بلوغ أفضل تجليات جماليات السينما. تلك التي استعار مفرداتها من اشتغالات الكبار، في عالم غدت الصورة معادله الرمزي وثقافته في آن.
حين تتكفل الكاميرا بترجمة خفقة القلب سينمائياً
نشر في: 30 نوفمبر, 2011: 06:25 م