عواد ناصر مهدي! مهدي! مهدي! هل تسمعني؟ إنني أطرق بابك منذ البارحة ولم تفتح. لعلك نائم نومة عميقة بعد أن أفرطت في تناولها صرفاً، كما أعرفك. رجاء، افتح الباب! الليلة البارحة كانت باردة، أو لعلني الوحيد الذي شعرت بهذا، ثمة ريح، أيضاً، تقف بيني وبين الباب، بابك، وأعاود الطرق لكن يدي لا تصل.. أحاول ويدي لا تصل! طيب، سأنتظر.
نضال مريضة. أعرف هذا، وهي لا تستطيع النهوض من سريرها إلا بمشقة أن تنهض جثة منقوعة بالأنسولين.أمضيت حياتك تعمل ممرضاً مخلصاً، بلا ضجر ولا شكوى، لتسعف زوجتك نضال، طيلة أكثر من ربع قرن. إن هذا وحده يجعلك أكثر الناس نبلاً. كم أغبطك على هذا النبل النادر... وأطياف؟ هل هي، الأخرى، نائمة؟لالالا، لعلها في الشام تحضر إحدى المسرحيات.. المسرح وطنها ووجعها اللذيذ. أعرف هذا أيضاً.أدهشتني أطياف التي تتكلم الإنكليزية أفضل منا، نحن المقيمين في لندن.مهدي!أحمل لك أشياء تحبها، كتباً وقصائد، وقنينة ويسكي أصلية.. فلماذا لا تفتح الباب؟لعلك تتذكر لقاءنا الأخير، في حلب حيث تقيم، وكيف ضحكت مني لأنني حاولت تقليد طريقتك في الجلوس وأنت تثني ساقيك تحتك.. على الكرسي. قلت وقتها: إنها جلستي الشخصية عصية على التقليد. إنها نوع من السهل الممتنع. حتى أنا ضحكت من نفسي.سألتك، حينها: كيف تعيش؟ كيف تدفع إيجار هذه الشقة؟ قبل أن أسألك عن الشعر.الشعر يكتب في أي مكان، لكن الشاعر لا يقيم في أي مكان.قلت لي: الشقة شقة صديق أعارني إياها، والعيشة دابرة: أكتب هنا وهناك. أريد أن أذكرك بذاك المقال الشيق الذي كتبه عنك الشاعر السوري مروان مصري، حيث قال: "هل تريد رهطاً أكثر قدسيَّة من هذه الأقانيم الثلاثة، محمد، علي، مهدي، الذين يتألف منهم اسم الشاعر العراقي مهدي محمد علي؟ كيف لرجل يحمل هذه الأسماء، مثلاً، أن يكذب، أو أن يسرق كتاباً، أو يخون زوجة، أو ينمَّ عن صديق... وغير هذا مما لم أعرفه يوماً في مهدي. أو أسأل نفسي، كيف له، بكل هذه الأسماء المهيبة، أن يُمَسَّ بضرٍّ، أو يُهدد، أو يخاف؟ كيف له بعد هذا أن يهاجر ويحيا مشرداً خارج وطنه، ربع قرن؟ بل كيف له وهو المضرور المهدد الخائف المشرد أن يحب ويتزوج وينجب طفلة، ثم يكرس حياته كلها لأجلهما، كيف له أن يسمي حلب، التي ينزوي فيها، بصرة حلب، ويكتب كتاباً كبيراً عن بصرته من دون أن يحتوي أي صورة، لشارع أو لساحة أو لمبنى وزارة أو لتمثال، هل هذا لأنه ليس لديه أي صورة للبصرة، أو أنه كان يريد صوراً معينة من أين أن يأتي بها؟ كيف له حين يشاهد زهرة شقائق نعمان وحيدة، فيقول: (يا شقيقة النعمان الوحيدة / أين بقية شقيقاتك؟)".حقاً، أين بقية شقيقاتها؟افتح الباب، يا أخي، يا صديقي، إنني أدق.. أدق منذ البارحة، وليلتي باردة كانت وموحشة، لأنك تركتني في العراء.هل هو أحد مقالبك؟ تتركني، وحيداً، في عري الليل البارد.. أدق بابك ولا تفتح؟كم كان يعجبني أن نستعيد (رحيل 78) وأن نكتشف معاً ( سر التفاحة) ونوقد (شمعة في قاع النهر) ونقتفي (خطى العين ) ونبتهج في (ضوء الجذور). لا لالا، لم أنس طبعاً (جنّة البستان) كتابك المخلص عن البصرة.. تلك الجنة الوافرة، هذا الخراب العميم.هل أنت زعلان؟لماذا لا تفتح الباب لي؟أنا الذي ينبغي أن أزعل. نحن على موعد وقلت لي إنك تنتظرني. وها أنت لا تفتح الباب لي.تركتني في عري ليلتي القاحلة.. متكوماً عند عتبة بيتك وحيداً.لماذا فعلت بي هذا، أيها الجواد النحيف الأصيل. الجواد الخفيف. أنا زعلان حقاً، ولن أكلمك بقية حياتي.من قصيدة مهدي: أغنيـــة لجـــواد بعيــــد !الجواد النحيف الأصيل الجواد الخفيف يرسم الأفق - لوحته - بالغبار بالغبار الخفيف بالغبار الذي يتطاحن وقت الأصيل الجواد الخفيف هاهو الآن يعدو ببرّية غادرت شمسَها الآن برّية لم يساور مداها ندى الليل لم تحترق بالأصيل ولكنها مثل قطن تماوج تحت الحوافر - لا نسمع الوقع - أو تحت رقص الجواد على الأفق وهو يخب بلا فارس دونما سرجه دون شمس تغيب ومن دون ليل يساور أعرافه أو يحاور أطرافه أو يباغت خصلة ذيل له راح ينشر تشكيلة الشّعْرِ تلمع من ذاتها الجواد النحيف الشريد الجواد البعيد يرسم الأفق دون ضياء ودون ظلام. لندن – 1 كانون الأول(ديسمبر) 2011
مهدي! لماذا لا تفتح لي الباب؟
نشر في: 3 ديسمبر, 2011: 07:18 م