علي حسن الفوازيرحل القاص محمود عبد الوهاب عن عالم كان يصنع الكثير من حكاياه، يرحل دونما اسئلة، دونما وصايا، يترك الكثير من الحب والاثر العالق بالنفوس، إذ كان محمود عبد الوهاب شاهدا على زمن ثقافي وزمن سياسي، وعلى زمن مديني استكنه فيه الكثير من المسكوت عنه، حتى صار هذا الزمن يخصه وحده، لانه بطله الاخلاقي، ولأنه مدون يومياته وحرائقه..
رحيل محمود عبد الوهاب فاجعة بحجم الحب الذي يحمله البصريون للحكواتي الكبير، وللقارىء المدهش الذي يعرفه كل اصحاب المكتبات وبائعو الصحف وحتى عطارو المدينة، لأنه اكثر الكائنات اليومية حضورا في المدينة ومقاهيها، وربما تجد حضوره بهياً في لياليها الثقافية الساخنة، اذ تتكثف بين يديه السنوات وكأنه (الفتى) المائي، والعاشق الذي يرتعش كلما مسّته رائحة الانثى، مثلما تجده نابها مجددا لادواته، قارئا من نوع غريب يتمثل لمقولته التي يكررها دائما(مباهج القراءة تجعل من القارىء شخصا مختلفا، فالقراءة عامل تغيير، والكتاب مثل النهر لاندخل فيه مرتين)، لذا لا أظن إن أحداً سيصدق رحيله او موته او هروبه من طقوسه اليومية التي مازالت رائحتها عالقة على (تخوت المقاهي البصرية) ولعل من اكثر الذين لا يصدقون (هذا الافتراض) محمد خضير الصديق النبيل، الذي يجد نفسه الكبيرة امام محمود عبد الوهاب مأخوذا بمهابة المعلم القديم والانيق، والذي يشبه كثيراً الممثل الشهير روبرت ميتشم بتسريحة شعره، وبشقرته المتوهجة. وكيف يجد كاظم الحجاج نفسه امام هذا الموت الغرائبي، الموت الذي يأخذ المعلمين والحكواتيين؟ وكيف سيصنع الاصدقاء البصريون مراثي لهذا الراحل الغريب والوحيد؟لست هنا للرثاء او للوقوف عند اثر الرجل الوحيد والمثير دائما، لانه كان اثرا لوحده، ولأنه كان اكثر كائنات المدينة البصرية اصطناعا للأثر، حتى انه لم ينبه لكتاباته القليلة التي قد لاتشفع لاي كاتب عابر، لكنه لم يستسغ لعبة العبور، ولم يطمئن للخروج عن الامكنة التي علق بها، حتى بدا وكأن حضوره اليومي في تفاصيل هذه الامكنة، واستغراقه في عوالمها نوع من التدوين، نوع من الشهادة على الوجود، وعلى الكشف.هذا هو اثر محمود عبد الوهاب في أيامنا المحشوة بالكثير من المحو، هو يدون وجوده/ وجودنا عبر فاعلية حضوره، وعبر انشداده الى الحياة التي كان يعشقها وحيدا، لكنها خذلته اخيرا، العشق يكره الخذلان، والعاشق لايجد نفسه إلاّ فارسا فحلا، دونكيشوتياً، له حرائقه الدائمه وضحكاته الضاجة، وله عوالمه التي كثيرا مايدون بها اللحظات التي يتركها الآخرون، او ربما هي اللحظات السائلة التي سراعان ماتكبر لتكون نوعا من الفضيان الجميل الذي يضج بغرق معرفي.الكشف عن زمن محمود عبد الوهاب هو الكشف عن زمن مدينة، لأن كليهما عاشا القلق واللذة والحرب والغرق وحكايات الراحلين والصيادين، مثلما عاشا لحظات التوهج بكل ماتحمله من حرمان وشغف وانتظار، ولعل استغراقات عبد الوهاب بالجمال هي التي قادته الى صناعة المتعة البصرية، فهو يعشق هذه المتعة، في القصة كتب (رائحة الشتاء) وهي نصوص فيها الكثير من التلذذ البصري، وحتى عنونتها هي لوحة يتراكب فيها الحسيّ مع البصري، مثلما استغرقه المسرح في الخمسينات، لأن المسرح يمثل فحولة ثقافية، فأخرج مسرحيات أهل الكهف لتوفيق الحكيم، ومسرحية عرس الدم للوركا،ومسرحية سوء تفاهم لكامو، كما انه المترجم (الذواق)الذي يختار نصا للذته، لاستنماء روحه التي ظلت عاطلة عن الشيخوخة، واظنها خرجت لتجلس في احد المقاهي المجاورة لمستشفى البصرة العام، تنتظر خروجه محمولاً مع الأصدقاء الذين يعرفون ان روحه تنتظرهم في المقهى..انا لم اصدق موته بعد، ولم اعرف سوى أن اكتب إليه، على يقين بأنه سيقرأ، وهو كما أعرفه قارئ نهم لكل الأشياء الصغيرة والكبيرة، حتى اخبرته مرة بأن عادة القراءة هي عادة تلذذ مع انثى تنتظر دائما، اجابني باحدى نكاته السريعة والتي تجعلني أشك الليلة بأن هذا الضاحك العجيب سيرحل يوماً بعيداً عن البصرة والمقهى والشوارع والكلام والضحك.
لا أظنه راحلاً هذا الضاحك العجيب
نشر في: 7 ديسمبر, 2011: 10:00 م