بغداد/ المدىاتكأت السيدة على ذراع إحدى جاراتها وصعدت درج المحكمة تجر قدميها، وكأن قدميها قد عجزتا عن حملها ، أثار مشهد هذه السيدة العديد من التساؤلات في أذهان الحاضرين في غرفة جلوس المراجعين والمحامين لمحكمة الأحوال الشخصية ، أجاءت تشكو عقوق أبنائها وجحودهم ؟ أم جاءت لتسوية قضية ميراث ؟ أم ما شابه ذلك من القضايا ؟
لكن المفاجأة التي فجرتها هذه السيدة جعلت الجميع يتابع بدهشة واستغراب تفاصيل قضيتها عندما سمعوها وهي تتحدث بصوت جهوري عن أنها جاءت لرفع قضية طلاق ضد زوجها المسن،وقفت السيدة المتصابية بعباءتها السوداء التي تواري جسدها النحيل، وقد حاولت أن تخفي قسما من وجهها بغطاء الرأس كحجاب ، ولكن ما لم تستطع إخفاءَه علاماتُ الزمن التي حفرت في وجهها أنفاقا ووديان تركت السنون بصمتها عليها وقد اشتعل رأسها شيبا رغم الحِنَّاء التي ما تزال آثارها (مرسومة على يديها )، وما لم تستطع إخفاءه أيضا هو علامات القلق والتوتر التي بدت عليها في حركاتها السريعة المضطربة وهي تقلب مع محاميتها أوراق قضيتها التي تستعد لعرضها على قاضي الأحوال الشخصية ، وفور الإعلان عن بدء الجلسات، صمت الجميع وتعلقت العيون والآذان بصوت الشرطي الذي ينادي على القضايا، اقتربت السيدة المسنة المتكئة على ذراع محاميتها من طاولة القاضي بعد أن سمعت اسمها من قبل المنادي، وقفت السيدة المسنة ترتعد خوفا وقلقا وذابت الكلمات على لسانها، شعرت أن الأرض تكاد تميد بها، وحملقة الوجوه فيها زادتها خوفا ورهبة على الرهبة التي تشعر بها ، لكن فور تحدث القاضي إليها حاولت التمسك وابتلعت خوفها وبدأت تسرد تفاصيل قضية الطلاق التي جاءت من أجلها قائلة : اسمي (ف) ،عمري ثلاثة وستون عاما، متزوجة منذ أربعين عاما تقريبا، لكن منذ أيام قليلة شعرت أن هذه السنين قد ضاعت هباء وأن انتظاري كل هذه السنوات على ذمة زوجي ليس له ما يبرره، وليتني ما انتظرت كل هذه السنوات، فقد قابل كل معروف بنكران وكل إحسان بعقوق وجحود حتى صرت أتمنى الموت على البقاء على ذمته يوما واحدا بعد الآن ، تكمل السيدة (ف) عندما تزوجته منذ أربعين عاما كان مجرد موظف بسيط في إحدى الدوائر، ورأيت في عينيه طموحا أكبر من أن يقتل في هذه الوظيفة التي كانت تدر علينا دنانير قليلة في كل شهر تكاد تكفينا بالكاد ، وعندما صرح لي بأنه يريد ترك الوظيفة ويستقيل ليتفرغ للأعمال الحرة ، لم أبخل عليه بإعطائه أموالي وذهبي وكل الميراث الذي ورثته عن أبي وأمي ، وكان ذلك كله هو رأسمال محل الأقمشة الذي اشتراه ليبدأ مرحلة جديدة من حياته وكان هذا المحل فاتحة خير عليه وبدأت بضاعته في الرواج وكل سنة تمر على المحل تتضاعف أرباحه وتزداد، حتى أضحى في غضون عشر سنوات من كبار تجار الأقمشة في الكاظمية ، بعدها أصبح يمتلك ثلاثة محال أخرى في مناطق مختلفة من الكاظمية وقد رزقنا الله في هذه الفترة بثلاث بنات ، ولكن إحقاقا للحق كان زوجي رجلا مثاليا يقدس الحياة الزوجية ويهب بيته كل عطفه وقليلا من وقته الذي كان يقضي معظمه في محاله والإشراف على البيع والشراء، تسكت السيدة (ف) ثم تستطرد قائلة: وعلى هذا الحال مرت الأيام والسنوات ولم نشعر بها؛ نظرا للتغيرات العديدة التي صاحبت حياتنا فكنا ننتقل بقفزات كبيرة نحو حياة أفضل وأكثر رفاهية، فاشترى لنا زوجي بيتا أكبر سكنَّا فيه، بالإضافة إلى شراءه عمارة كاملة، وأنهت بناتي تعليمهن وحصلن على شهادات عليا وأصبحن زوجات رجال لهم وضعهم المادي والأدبي في المجتمع، وفرغ البيت علينا وظننت أن الله سيديم علي نعمته وأقضي أيامي الأخيرة في أحضان زوجي الذي بلغ هو الأخر من العمر سبعة وستين عاما ، لكن الله لم يشأ ذلك ، حدث تحول غريب في حياة زوجي،وهنا توقفت السيدة (ف) عن متابعة حديثها بعدما ثقلت الكلمات على شفتيها وكأنها عجزت عن الخروج من فمها الذي شعرت بغصة فيه وانهمرت من عينيها الدموع فجرت في وديان وجهها وتجاعيده، سحبت من حقيبتها قنينة ماء وارتشفت منها رشفة واحدة أعادتها إلى الحقيبة، ثم ابتلعت لعابها وتحاملت على نفسها لتكمل حديثها للقاضي، كنت أظن زوجي قد ودع مغامراته العاطفية بعدما شاب شعر رأسه وأصبح جدا لسبعة أحفاد ، لكنه للأسف عاد لمغامراته مرة أخرى وكأنه يبدأ من جديد مرحلة مراهقة متأخرة أو كشاب طائش تعددت علاقاته النسائية، وأخيرا وقع في غرام فتاة تصغره بأكثر من 45 سنة استطاعت أن تضحك عليه باسم الحب لكي يتزوجها وبالفعل تزوجها واشترى لها بيتا فخما بالإضافة إلى الحلي الذهبية والسفرات إلى الخارج، الآن اشعر أنه أهدر كرامتي وأهدر عشرة العمر بيننا بعدما أصبح مجرد لعبة تلهو بها تلك الزوجة الصغيرة التي جعلته لا يشعر بوجوده ولا كونه أبا وجدا، فهجرنا والتفت إليها،أبناؤه قرروا أن يرفعوا عليه قضية حجر لعدم الاتزان في قراراته، لكني رفضت أن أشاركهم هذا الرأي ولو كانوا مصممين عليه، لذلك قررت أن يفعلوا به ما يفعلون، ولا أكون أنا التي تحفزهم على ذلك فقررت أن أطلب التفريق حتى لا أدخل معه في متاهات أنا في غنى عنها، وبعد استماع القاضي لأقوال الزوجة نودي على الزوج الذي لم يحضر رغم تبليغه بموعد المحكمة، وما تزال القضية غير محسومة بعد عدة جلسات وتأجيل، بانتظار تدخل الأقارب والبنات اللاتي اتفقن مع أمهن على حل الم
بعد 40 سنة من الزواج .. جاءت تطلب الطلاق !!
نشر في: 9 ديسمبر, 2011: 05:32 م