بعد صدور ديوان "الريل وحمد" في اوائل الستينيات أنقسم الشعر الشعبي الى مدرستين من حيث الشكل والمضمون هما: التقليدية والحديثة. أما قبل الديوان فقد كان منقسما الى مدرستين من حيث المكان هما: البغدادية والجنوبية. والأخيرة تضم الفرات الأوسط. البغدادية كان علمها ملا عبود الكرخي. اما الجنوبية، وتسمى "الحسجة" أيضا، فيمثلها الحاج زاير بامتياز.
ما أحدثه "الريل وحمد" لم يقتصر على تجديد القصيدة الشعبية بل كان زلزالا هز كيان القصيدة واعاد تشكيل الذائقة الشعبية. زلزال استمرت توابعه حتى مطلع السبعينيات وأثّر في طبيعة الأغنية العراقية فتجددت هي الأخرى لتتماشى والتغيير الذي حدث في ذائقة الناس. هذه الروح الجديدة التي ابتدأت من الشعر والذائقة ثم الأغنية رافقتها لأول مرة حركة نقدية اهتمت بالأدب الشعبي بشكل عام وركزت على الصنف الشعري منه بشكل خاص. ورغم قصورها النوعي والموضوعي احيانا، وتأثر أصحابها بأهوائهم السياسية والشخصية، الا ان أغلب رواد حركة النقد الشعبي تلك اتفقوا على ان القصيدة البغدادية سطحية وذات معان ساذجة على عكس قصائد شعراء الجنوب، التي كانت برأيهم، عميقة في صورها ومعانيها. لا يخلوا هذا التعميم من إجحاف كبير اذ ان في بغداد شعراء مبدعين ومجددين ايضا مثل طارق ياسين وحامد العبيدي ويعرب الزبيدي وغيرهم.
أغفل المهتمون بنقد الشعر الشعبي دراسة أغراض قصيدة الكرخي مقارنة بزاير. ورغم ان كلا الشاعرين استخدما السخرية والشكوى بشكل واضح في قصائدهما الا انهما اختلفا في الهدف. فبينما يسخر الحاج زاير من اناس بسطاء كصبحة بائعة الروبة او فلاحا لم يقدم له شايا، نجد الكرخي صب جام سخريته على الحكومة والحكام والبرلمان والانتهازين والمفسدين. وان شكا الحاج زاير فشكواه اما من الدهر والاقدار او من الناس الذين يعيش بينهم. لكن الكرخي، بالمقابل، كانت أغلب شكواه نقدا سياسيا. باختصار، لم نجد عند الحاج زاير موالا أو قصيدة واحدة تحمل هما سياسيا أو انتقادا للسلطة أو التقاليد الاجتماعية. على العكس من قصائد الكرخي، الذي حتى ان كتب قصيدة غزلية او اجتماعية مثل "المجرشة" التي تحكي عذابات امرأة قروية يضطهدها صاحب العمل، نجدها ذات طابع نقدي للساسة والمجتمع.
ما قلته عن الحاج زاير يكاد ينطبق على اغلب شعراء الجنوب والفرات الأوسط الشعبيين الذين عاصروه وجيل عريض من الذين جاءوا بعده.
يبدو الحاج زاير وكأنه لا يعلم بان هناك حكومة في بغداد عليها واجبات تجاه الشعب. لذا عندما يمر بضائقة يجعل هدفه الناس فيسب مَن حوله :
يا حيف نكضي العمر ما بين وادم طرش
لو تلزم اذنة لزم لو ما يكفف بالهوش
ومثل ذلك كثير في موالاته.
اما الكرخي فهدفه من خان الناس والوطن اولا:
بخصوص هل خانوا وطنهم لا تظن اني اعف عنهم
ما اكف عنهم اسبهم اذا نخله براسي طلعت
هل اهتمام الكرخي بالسياسة وابتعاد زاير عنها سببه المكان؟
ولو لم يكن الكرخي بغداديا، هل سيكتب في السياسة؟
وان كان الحاج زاير قد ولد وعاش ببغداد هل كان سيكتب غير ما كتب؟
اظنها ظاهرة تحتاج الى ناقد اجتماعي موضوعي مثل على الوردي ليجيبنا.