حميد الكفائيمنذ عدة أشهر والحملات الموجهة ضد رئيس البرلمان أسامة النجيفي تتوالى الواحدة تلو الأخرى، فمنها من يتهمه بتعيين الأقارب ومنها من يتهمه بإنفاق الأموال العامة على قضايا شخصية، وأخرى تتهمه بهدر المال العام على رحلاته الخارجية، مستشهدين برحلته الأخيرة إلى بريطانيا التي قيل إنها كلّفت ملياري دينار.
لكن منظمي هذه الحملات يغفلون أنها تُظهِر من جانب آخر سكوتهم عن ممارسات المسؤولين الآخرين، سواء كانوا في الرئاسات أم بين الوزراء ورؤساء الهيئات والوكلاء وباقي المسؤولين في الدولة الذين لا يترددون في تعيين أقاربهم أو الإنفاق على رحلاتهم إلى الخارج مهما كلف ذلك الدولة من مصاريف. النائب حنان الفتلاوي تصدت بشجاعة ولباقة بالغتين لقضايا الفساد وهي دون شك تستحق الاحترام على مساعيها تلك التي سلطت الأضواء على الفساد المستشري بين كبار المسؤولين السياسيين الذين يفترض أنهم قدوة للآخرين في الالتزام بالقوانين والحرص على المال العام. ولكن عليها أن تتعامل مع الجميع بالمستوى نفس وبالحماسة ذاتها، إن أرادت الآخرين أن يصدقوا أنها فعلا ضد الفساد الذي يرتكبه المسؤولون جميعا وليس فقط ضد الفساد الذي يرتكبه خصومها السياسيون. للأسف فإن المعركة بينها وبين النجيفي اتخذت طابعا شخصيا فهو يقاضيها على "التشهير" وهي تتوعده بالمزيد. وقد حصل الشيء نفسه مع مفوضية الانتخابات التي استجوبتها الفتلاوي أمام البرلمان وذهب الطرفان إلى القضاء بتهمة التشهير. وقد يحصل الشيء نفسه في الحملة الحالية لكشف الفساد في أمانة بغداد التي يقودها النائب شروان الوائلي. وتكاد تُهَم الفساد تكون واحدة في هذه الحملات والاستجوابات، فهي إما تعيين أقارب أو إهدار المال العام على الأمور الشخصية أو تقديم عقود مشاريع الدولة لأشخاص مقربين وخلافا للضوابط.كثيرون يتساءلون إن كان النجيفي وحده الذي وظّف أقاربه معه كمستشارين أو سكرتارية أو حماية. فإن كان آخرون قد فعلوها قبله وبعده فلماذا يُستَهدَف النجيفي وحده ويُسكَت عن الآخرين؟ ولماذا لا يسعى النواب الذين ينتقدون تعيين الأقارب إلى إصدار قانون يجعل تعيين الأقارب فسادا ومخالفة قانونية؟ في الوقت الحاضر ليس هناك قانون من هذا القبيل وبإمكان المسؤولين أن يعينوا من يشاءون من أقاربهم من الدرجة الأولى في دوائرهم ومكاتبهم ووزاراتهم علناً ومن دون خوف من القانون أو وسائل الإعلام لأن الأمر قانوني مقبول اجتماعيا ويحصل منذ أيام مجلس الحكم عندما قام الأعضاء بترشيح أقاربهم للوزارات والوكالات والسفارات، وهذا حقا أمر معيب في كل بلدان العالم ويعتبر مضرا لأنه لا يأتي بالأفضل إلى المواقع المهمة بل يساهم في التغطية على الفساد وإدامته ومأسسته.أتذكر حادثة أثارت ضجة في وسائل الإعلام البريطانية وقتها وهي أن وزير الخارجية البريطانية في أواخر السبعينات، ديفيد أوين، قد عين صهر رئيس الوزراء آنذاك، جيمس كالاهان، سفيرا في واشنطن. ورغم أن السفير المُعيَّن، بيتر جَيْ (Peter Jay)، هو من الشخصيات المرموقة ومن الخبراء الاقتصاديين المتميزين في البلد وكان مستوفيا كل الشروط ومستحقا التعيين سفيرا، إلا أن كل ذلك لم يشفع له ولا لوزير الخارجية الذي عينه لمجرد أنه متزوج من ابنة رئيس الوزراء. وقد اعتُبِر تعيينه فسادا ومحسوبية ، ما دفعه إلى الاستقالة من منصبه، دون ضغوط من أحد ولكن إنقاذا لسمعته واحتراما لنفسه واعتزازا منه بقدراته ومهاراته الكثيرة. لقد استقال بيتر جَيْ من منصب السفير كي يبرهن للجميع أنه ليس مكترِثا لتلك الوظيفة العامة ولا متهافتا عليها، إذ حصل بجدارة على وظيفة مهنية مرموقة وهي إدارة القسم الاقتصادي في التلفزيون البريطاني البي بي سي وبقي في تلك الوظيفة حتى تقاعد قبل عشر سنوات تقريبا وكان من أهم المحللين الاقتصاديين في حينها إذ كان يطل على البريطانيين عبر التلفزيون ليوضح القضايا الاقتصادية المعقدة ويحلل السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية والضريبية للحكومة. كما كتب كتابا ممتعا في الاقتصاد عام 2000 تحت عنوان (الطريق إلى الثراء أو ثروة الإنسان- Road to Riches or Wealth of Man) بيعت منه آلاف النسخ. أما الوزير الذي عينه فلم تقُم له قائمة بعد ذلك إذ ظلت تلك الحادثة تلاحقه أنى ذهب حتى غادر السياسة كليا مطلع التسعينات. لا أحد يتوقع من مسؤولينا ومؤسساتنا الارتقاء إلى مستوى النزاهة في بريطانيا، ولكن يجب أن يكون هناك قانون يحدد ما هو الفساد وهل تعيين الأقارب فساد من الناحية القانونية أم لا. هو بالتأكيد فساد من الناحية المعنوية والسياسية فمَن كانت أولوياتُه هي تعيينَ أقاربه وأصدقائه فإنه لن يهتم كثيرا لما يحصل للآخرين من أبناء بلده إن كان هو وأقاربه وأتباعه بخير. كان الأحرى بالسياسيين العراقيين أن يبدأوا صفحة جديدة منذ عام 2003 ويتجنبوا الدخول في هذا المأزق لكنهم لم يفعلوا بل أدخلونا في نفق مظلم يصعب الخروج منه. السؤال الآخر الذي يجب أن يطرح هو هل يتمكن النجيفي فعلا أن يقوم بزيارة إلى أي بلد على رأس وفد برلماني دون أن يصطحب معه نوابا من الكتل السياسية الأخرى؟ أم أنهم سيقيمون الدنيا ويقعدونها عليه إن هو لم يُشرك كل الكتل السياسية، الصغيرة منها والكبيرة، في البرلمان في عضوي
لماذا يُستهدف النجيفي وحده ويُهمَل الآخرون؟
نشر في: 11 ديسمبر, 2011: 07:13 م