نجم واليعندما ينتحر إنسان ما يبدأ الآخرون بالنظر لسيرة حياته بطريقة أخرى. كل حركة منه وكل كلمة تُستعاد وتُحلل من جديد. في 12 مارس 1942 يزور الزوج فرجينا وليونارد وولف صديقتهما المشتركة دورا كارينغتون التي لم تستطع حتى تلك اللحظة نسيان موت حبيبها لايتون:
"كم بدت خائفة أن تفعل شيئاً ما بصورة خاطئة مثل طفل يخاف التأنيب. رافقتنا حتى باب البيت. قبلتني مرات عديدة. سألتها: إذن ستأتين لزيارتنا في الأسبوع القادم؟ نعم، سآتي أو ربما لا، قالت. ثم قبلتني وودعتني مرة أخرى ودلفت إلى البيت، التفتت ولوّحت لها فرأيتها ما زالت تنظر إلينا. لوحت مجيبة، مرات عديدة ثم اختفت".كان ذلك آخر ما عرفته العائلة وولف عن صديقتهما. في اليوم الثاني في الساعة 8:30 أخذت دورا بندقية صيد وأطلقت على نفسها الرصاص. مشهد الوداع هذا، تكرار التلويح دائماً والالتفاتات غير العادية، الحدس بأن شيئاً ما يحمل معه النذير سيحدث تباعاً، سيشكل الصوت الرئيسي لخلفية اليوميات التي كتبتها فرجينا وولف بين 1931 حتى 1935 ، التي صدرت حديثاً بترجمتها الألمانية. هذا الصوت نجده بصورة خاصة في وصف الطبيعة والرحلات ويمنحها نبرة شفافة مؤلمة ويجعلنا ندرك أن كل ما يبدو ممتعاً للوهلة الأولى يحمل في داخله الكثير من الوجد والحزن: جمال فرنسا فارغ من البشر، جمال اليونان فارغ من التاريخ وكأن فرنسا واليونان مجرد جغرافية مرمية هناك، أما عيني الكاتبة فلا ترى غير أفق ممتد تسرح فيه. "تابعنا رحلتنا باتجاه البحر – كم هي جميلة شفة البحر الصافية عندما تلحس الشاطئ المتوحش؛ وفي خلفية المشهد تتمدد التلال والسهول الخضراء والأفق البعيد والصخور الخضراء والحمراء.."هناك مشاهد عديدة مثل هذا المشهد ، التي تظهر فيها الألوان ناصعة دائماً مثل قيم نظيفة تعوض عما هو مثير للألم كما لو كان هذا الأنا الذي يصفها لن يدخل بأي احتكاك لاحق معها، كما لو أنها لوحة من أشياء لن تتكرر رؤيتها لأن هي من عين شخص يحتضر. إنها مفارقة أيضاً أن نعرف أن العين "المحتضرة" هذه هي عين فرجينا وولف التي بلغت تواً الخمسين من عمرها والتي وصلت حينها إلى قمة مجدها الأدبي. رغم ذلك يبدو أن الحظ لم يشأ لها أن تستمتع بنجاحها هذا بصفاء. لم يكن لايتون ودورا الوحيدين اللذين ماتا إنما آخرون أيضاً.. كان الموت يدور مثل شبح في حلقة الأصدقاء، حتى "بينكا"، كلبة العائلة تموت. بموازاة ذلك - وكأنه خلفية موسيقية حادة لخلفية المشهد المأساوي هذا - تدهور الوضع السياسي العالمي بعد استحواذ النازيين على الحكم بألمانيا وصعود هتلر للسلطة ليصبح شبح الحرب في 1935 قضية باتت تهدد البشرية.لكن رغم الصوت الحزين هذا المبثوث بين السطور تحدثت فرجينا وولف دائماً عن سعادتها في هذه السنوات. رغم أنها بحسب الناشر الألماني سعادة مثيرة للشك، فمن هو سعيد حقاً لا يحتاج إلى تكرار الحديث عن ذلك مرات عديدة، كأنه يريد عن طريق ذلك طرد شك استحوذ عليه! كما في حالة وولف فهي لم تكتف بذلك وحسب، بل أغرقت يومياتها بتفاصيل يومية صغيرة زائدة لكل ما تفعله حتى عند ذهابها للحلاق، أو ذكرها لما يدور في جلسات الشاي في حلقة المعارف والأصدقاء. عن أليوت تكتب مثلاً، كيف أنه "يوسخ في الأكل كثيراً". حتى الخدم لم تخف امتعاضها منهم، "أمر مسلم به أن يكون عند المرء خدماً، لكن لماذا يسببون دائماً مغثة ومشاكل"، "أمس كان الآيس كريم صلباً وقررنا أن نطرد خادمتنا مابل. إنها مخربطة، تلبس حذائها بشكل أعوج وتلبس جوارب سوداء طويلة". السؤال هو: هل يشكل هذا سبباً لطرد إنسان وجعله بلا عمل؟ لا أدري، لكن كل ما أدريه، هو أن تعرفنا على تفاصيل حياة كتّاب كبار أحياناً يجعلنا ننفر منهم، وهذا ما فعلته قراءة اليوميات عندي. فآه لو لم تكن صاحبة الأمواج بالحسّاسية هذه!
منطقة محررة: الحساسة فرجينيا وولف
نشر في: 13 ديسمبر, 2011: 06:56 م