علي حسن الفوازعصرنا هو عصر الشاشة، عصر البصريات التي تركض كالخيول، وربما هو عصر المتاهة أيضا، هذا التحديد يضعنا أمام التباس كبير وخطير، مثلما يضعنا عند غابة من الأسئلة المفارقة، تلك الأسئلة التي تلامس خوفنا من تلك الشاشة الكبيرة التي ترصدنا وتراقبنا وتتلصص علينا ونحن في أقصى لحظاتنا غيابا، مثلما تلامس حاجتنا للخروج من(ثقافة القلعة) الى ثقافة الساحة، قلعة الايديولوجيا والحكم والأبوة والوصايا، الى ساحة الحريات والمواطنة والحقوق المدنية..
الصورة والشاشة هما الهاجس الذي نرهن وعينا(الشقي)الى أزماته، إذاً كيف لنا أن نعيش هذا الهاجس دونما حساسية أو فوبيا؟ وكيف لنا أن نكون جزءا من هذا العالم الذي بات يصور كل شيء بدءاً من الجسد وصولا إلى الفكرة؟ قد تبدو هذه الأسئلة ملتبسة، لكنها عقلانية جدا، خاصة أن هذا العقل التداولي تضخمت(ديكارتياته)كثيراً، وأضحى يبحث عما وراء مناطقه الاستعمالية من سرائر وشفرات أكثر سرية..لذا يجب الإقرار بأن لا أحد ينكر هيمنة سلطة الصورة على صناعتنا الثقافية، الإعلامية والأدبية، ولا يمكن لأحد أن يتجاوز نسقها التوصيلي الذي بات يختصر الكثير من السرود الطويلة..لكن هذه الصورة ستبقى وحدها باردة ومصنوعة بقصدية محددة، وتحت آليات إخضاع سياسي جعلتها جزءا من لعبة السلطة والإغواء والتخويف والتهويل وبعيدا عن التوصيف المهني ومحمولاته الافتراضية للرسالة الإعلامية والأدبية.تاريخ صناعة الشاشة والصورة في ذاكرتنا البصرية هو تاريخ الآخر، لذا يحتاج هذا التاريخ إلى مراجعة جادة ومسؤولة لكي نجعل اشتغالاته بهموم التعاطي مع هذه الصورة جزءا مؤصلا في سيرورات الوعي الثقافي الجديد، خاصة أننا بتنا بحاجة الى إنتاج بواعث للخروج الكبير من مهيمنات(الكتل الكبرى)التي تركها العقل الهيغلي في ذاكرتنا الثقافية، مثلما هي الدعوة لإخراج ثقافة الكلمة من هسيس رسالتها الصوتية التي ظلت هي الحاضرة والضاغطة والمدوية، والتي أعطتها هذا الطغيان الافتراضي لادوار استثنائية جعلتها خاضعة لموجهات معززة لسياق بطولي للكلام/الخطاب، وبعيدا عن أن تكون الصورة هي الغواية الأكثر أثراً في التمكين وفي مواجهة شروط الحداثة التي تأتي متأخرة دائما، بحكم عقدة الرهاب التي يعيشها صناع القرار إزاء الحداثة وفقها، وحيث يمكن أن تندرج لعبتها العميقة في التعبير عن حشد آخر يتجاوز تاريخ (الألعاب)القهرية والغوايات السياسية والإيديولوجية التي ظلت تهيمن على حسابات هذه الأجندة او تلك.في إعلامنا العراقي المرئي الجديد باتت الصورة اكثر إثارة وأكثر إغواء، إذ أخذت هذه الصورة دور الصانع لنص المتعة، ولنص الذاكرة والسيرة والارخنة الكرنولوجية للأحداث، وهو ما جعل سلطتها بلا نسق، وبلا تاريخ، وحتى دورها السري التوثيقي كان دورا غير ممنهج، لكنه قصدي في أحسن حالاته لإنتاج صورة للرعب البصري ليكون نوعا من الاستعراض الغريب لفكرة العنف والقوة والتكفير والكراهية، فهي صورة افتراضية للتوصيل ولصنع رسالة أو رأي!! وهذا لاشك فيه، لكن أن تكون هذه الصناعة- كل حسب مرجعياته ومواقفه - منتقاة بدقة وبحرفنة ليست مهنية، وربما لغايات او شفرات أخرى فيها الكثير من السياسي والطائفي، فهذا أمر يحتاج إلى قراءة أكثر عمقا، ليس بفرض الرقابة او إعادة إنتاجها في ضوء إعادة إنتاج نكوصية للمركزيات، بقدر ما هو العمل على ضرورة التعاطي المسؤول والأخلاقي مع قيم مهنية- قيم الحداثة والتفاعلية- يمكن أن تحدد المسؤوليات والحقوق والآليات وحتى العقلنة، لأن رهاب الصورة وعشوائيتها بدأ الأقرب من التصنيع الرخيص والساذج، وربما توهم البعض من بقايا أصحاب الإيديولوجيات الشمولية بجعل هذه الصناعة جزءا من لعبة الدروب السرية أو المؤامرات الصغيرة. في العديد من القنوات العربية والعراقية ، وحتى القنوات أنصاف الفضائية!! نجد هذه الظاهرة شاخصة للعيان، والتي تمشي جريا على بعض ما تتداوله بعض القنوات (الموجهة) والتي لا همّ لها سوى استعادة فكرة(المنتصر القديم) وإثارة النعرات والصراعات من اجله، والإصرار على نقل الصورة المسيّسة والمعنفة ، التي تقول إن العراق العنفي بلا أمل وأنه سيعيش قرونه الوسطى خارج شروط لعبة المنتصر القديم. الوعي بأهمية صناعة الشاشة بوصفها صناعة عابرة للوطنيات، تفترض وعيا إجرائيا لاكتساب مهارات صناعة صورة جاذبة لرسالة إعلامية تتجاوز النمط القديم، نمط الكتلة، والخطاب والشتيمة، الذي مازال البعض يحملّه وصايا الكراهية والإصرار على تشويه الحالة العراقية وتحولاتها وحتى تداعياتها، والتعتيم على الكثير من الحقائق التي باتت ظاهرة رغم محدوديتها، و النزوع الى القصدية في نقل صور مضخمة لمشكلات موجودة وحقيقية، لكنها ليست وليدة اليوم، بقدر ما هي جزء من هموم قديمة متراكمة بسبب رداءة الوعي السلطوي والمؤسساتي الذي أنتج الحروب العبثية والحصارات القاسية، وسوء إدارة الشأن العام، وطبعا فإن الاكتفاء بنقل هذه الصورة وتكرارها بشكل سيئ يعني أن هناك مروقا عن وعي الشاشة والصورة بوصفهما خروجا إلى الساحة، والنكوص باتجاه سرديات الأجندات السياسية التي تتوهم بوضع هذه الصورة بمثابة الموقف الذي يرسل للعالم عن العراق، دونما إشارة إلى من هو المسؤول عن استمرار إنتاج هذه الصورة،
فوبيا الصورة.. فوبيا الفكرة
نشر في: 13 ديسمبر, 2011: 07:32 م