TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > تلويحة المدى: الخـرافــي والحقيقــي بشـأن بيكـاســو

تلويحة المدى: الخـرافــي والحقيقــي بشـأن بيكـاســو

نشر في: 16 ديسمبر, 2011: 05:56 م

 شاكر لعيبيبيكاسو أسطورة شعبية، بسبب شعبيتها ينظر إليه بعض نقاد الفن الأوروبيين بعين الريبة، لكن لا أحد يستطيع تجاوز تأثيره العميق في فن القرن العشرين. الأساطير كثيرة عنه أيضا، بعضها جزافي ، وأخرى مشكوك فيها عن أصوله العائلية التي طالما سمعناها وسخرنا منها، وبعضها يطال مرجعياته التشكيلية التي لا يعترف بها مراراً، وهو أمر جديّ نتوقف عنده. في مرات سابقة تحدثنا في "تلويحة المدى" عن علاقة فن بيكاسو بالمستعربين الأندلسيين، وكان الأمر في الحقيقة جزءا من بحث نعده للنشر، نسمح لأنفسنا بأن نطلع قراء المدى على بعض نتائجه.
في كتاب منهجي صارم عنوانه (بيكاسو والسيراميك) بالفرنسية، هناك شروحات عن كيفية عودة بيكاسو إلى المراجع الفوتوغرافية من أجل إيجاد أو استلهام تصاميمه الخزفية. يتحدث المؤلف من بين أمور كثيرة عن علاقة الفنان بالخزف القبرصي، أو إعادة إنتاجه لتصميم خزفية فرنسية منشورة سابقاً في كتاب عن الخزف الفرنسي صادر عام 1928، مع صورتين عن الخزفية الفرنسية الأصلية وزخزفية بيكاسو جوارها. لا يقيّم مرجعنا هذه السرقة البيكاسوية الصريحة إلا بالقول أنها "تطابق" الأصل. لا يتعلق الأمر بالتطابق أبداً بل بشيء آخر أكثر دلالة، الأمر الذي يسمح بالقول أن من أول نتائج بحثنا التي تود أن تكون موثقة بدقة هي أن بيكاسو يعتبر، على ما يبدو، أن "عبقريته"، وشهرته التي طبقت الآفاق تسمح له باعتبار كل إنجاز سابق أو معاصر بعضاً من مستحقاته، إذا لم نقل منجزاته (نحن نعرف شعراء عرباً يذهبون المذهب نفسه). وضمن منطق الفنان هذا يصمت أيضاً مؤرخو تاريخ الفن الحديث، أو يخففون، من كل واقعةِ "تطابقٍ" مريبةٍ لصالح فعالية تشكيلية جبارة أثبتت أنها خلاقة على الصعيد الإبداعي. نحن نرى إفراطاً في كلا الموقفين. إن استيهامات بيكاسو نموذجية في عزوها أعمال الآخرين لنفسها، ولم تكن لترضي جميع الأوساط التشكيلية والمتخصصة في القارة الأوروبية. لم يصمت نقاد الفن عن "تطابقات" بيكاسو مع أعمال يعرفونها جيدا في تاريخ الفن الأوروبي حتى أن جورج شارنسول (Georges Charensol) يتحدث عن أن بيكاسو "نسخ"حرفياً أشكال الفن الأفريقي، لكنهم صمتوا عن تطابقاته مع الفن الأندلسي الإسلامي. وإذا ما تحدث البعض في مناسبات عدة، خاصة في سنوات الثلاثينات، عن انزعاجهم من بيكاسو، فقد نطقوا بنبرة فيها إشارات مريبة لأصله الأندلسي، الإسلامي، البربري، الذي ظن المثقفون العرب الشكاكون مثلنا أنه اختراع قوماني عربي بائس، لكن أشارات أولئك النقاد كانت بالضبط مثل إشارات بعضهم اليوم عن العرب والثقافة العربية. وكدليل على تلك الإشارات ما كتبه مثلاً الناقد جورج شارنسول أعلاه صديق بيكاسو بمناسبة اتجاهاته السوريالية: "بيكاسو هو قبل كل شيء أندلسي، ومن سلالة الغزاة العرب" (عن كتاب عنوانه "من أجل تاريخ ثقافي للفن الحديث" ص 230). جاك غينJacques Guenne  قال: "بيكاسو بربري عذب" (ص229)، فلاديمار جورج Waldemar Georges: "بيكاسو مكتفٍ بشعاره المعادي للصورة iconoglaste " (ص229). وكلها تصريحات وتلميحات إلى أصله الأندلسي، أو إلى إسلام يعادي الصورة. كان الجميع يعلم من دون شك أن والدة بيكاسو دونا مريا أي لوبيز من أصل أندلسي عربي. وحسب البعض فإن بيكاسو لم يُقبل في فرنسا إلا عام 1945، ويضع من بين أسباب قبوله شعبياً ونقدياً أنه عاد وصار خزافاً، بإشارة إلى أعماله المنجزة في مدينة فالوريس الفرنسية الخزفية التي أطلقت طاقته السيراميكية.لقد نظر أسوأ ما في النقد الفرنسي إلى بيكاسو بعين الريبة بل العنصرية لأنه أندلسي من أمٍّ ذات أصول عربية، وإنْ لم يقل الأمر على نحو فج أبداً، وبقيت هذه النظرة، على ما يبدو، خفية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. بينما نظر، بنيّةٍ سليمة، أرفع الأسماء في الثقافة الفرنسية، مثل أبولونير، إلى نزوعه التجديدي، وشخصيته الحرة، واقترابه من التجريد على أنه قادم أيضا من أصلٍ أندلسي إسلامي لا يحبّذ الصورة والتصوير. في كلتا الحالتين ثمة أمر غير مريح في الغالب بالنسبة للفنان، وهو ما قد يفسِّر تغافل بيكاسو وتجاهله وطمره أمر مراجعه الأندلسية، مكتفياً بمنجزه البديع الذي هو الرد المفحم على نزعات الريبة العنصرية التي قيلت في وجهه بأسلوب حريري، ولغة ثقافية عالية.إن أي استعراض للحياة السياسية الفرنسية، وتصوراتها الثقافية عن الشعوب المستعمرة في الفترة الممتدة على الأقل من احتلال الجزائر حتى نهاية الخمسينات، ستدل المرء بسهولة إلى صعوبة أن يكون المرء عربيا، أو مسلماً، أو من أصول أندلسية حتى لا نقول إسبانية. شهدت هذه الفترة كل أنواع التصورات الاستعلائية والأكزوتيكية والاستشراقية والعنصرية واستغلال الشعوب والحروب الطاحنة ضدها، والتقليل من شأن حضاراتها. ولقد كانت إسبانيا في قلب ذلك. وضع الوعيّ الأوروبي إسبانيا، لفترة طويلة، في مصاف "بلدان الجنوب" المتخلفة. إن جرداً بالكتابات والاستشهادات التي تنظر إلى الأسبان بهذه الروحية ولا شيء سواها، يمكن أن تؤلف كتابا بأكثر من مجلد واحد. لنتذكر أن مفردة موريسكي (mauresque) وحدها كانت مثقلة بدلالات سالبة عميقة في الأدبيات الأوروبية. ومن هنا علينا النظر إلى عملية الطمس الواعية أو اللاواعية التي قام بها بيكاسو لكي لا يتذكر أو يذكّره أحد بتلك المفردة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram