TOP

جريدة المدى > المنتدى العام > أيام الجمهورية الكئيبة

أيام الجمهورية الكئيبة

نشر في: 16 ديسمبر, 2011: 07:09 م

عماد حسن   وحدهم السياسيون البائسون من يريدون تحويل أفكارهم المتواضعة إلى قوانين خارقة. في العراق أمثلة بدأت ولم تنته؛ أكثرها قرباً من الذاكرة، هي الأعوام الثلاثين من حكم البعث العربي. تلك الأشد قتامة في تاريخ العراق (ولا أعني بالتأكيد ما بعد 2003 لأننا لم نتوصل بعد، إلى "ذرعة" نقيس بها سوءها). السياسيون هؤلاء "رجال اليقين" (كما يسميهم ميلان كونديرا) مصرون على رسم الحياة بأيامهم الكئيبة، أيامهم الخالية من المعنى ومن الخيال كذلك؛ حتى لتبدو أنها تلفيق لأيامنا المسكينة.
ربما شاركني الكثير من الناس في حيرتي (الطويلة) من إيجاد معنى معقول لأسماء أيام غير معقولة. حيرتي تلك، لم تأت نتيجة لعمق ما أفكر فيه، بل لضحالته. حينها أدركت إن ما هو تافه قد يحيرنا أكثر من غيره بكثير.  ما زلت أفكر (رغم مرور ثلاثة عشر عاماً) بذلك اليوم الذي استيقظ فيه القائد (رجل التسميات الكثيرة) وقرر (كعادة الرجال التافهين) إن يطلق على يومه ذاك اسم: يوم النخوة. هل هناك تشابه في المعنى، بين ما نعرفه بخصوص النخوة وبين المعنى الذي أراده؟ هذا ما شغلني حتى الآن. وكان سيستمر لولا ما سمعته مؤخراً عن اسم جديد (سيأخذ ما تبقى لي من أعوام) سيطلق على اليوم الأخير من الانسحاب الأمريكي.    يوم الوفاء؛ تخيلوا هذا التبذير في استخدام المعاني. أحيانا ألوم نفسي (بشدة) لقصوري  عن فهم ذلك الانزياح اللغوي الذي يرطن به شعراء الحداثة ونقادها الكبار (فأنا دائم الشك والحيرة إزاء ما يستخدمونه من كلمات فخمة وغامضة وجميلة لكنها لا تقول شيئاً يمكن فهمه). يبدو إن الرجلين يفهمان اللغة بنفس طريقة شعراء الحداثة الغامضة، فاللغة عندهم هي الأداة المُثلى لقول اللاشيء (أرجو أن لا تُفهم الجملة الأخيرة، على أنها إدانة لـ (للاشيء)، فهو شيء في نهاية الأمر كما يقول نفس النقاد). الرجلان يستخدمان مساحة اللغة البعيدة عن فهمي البسيط . أقول بسيطاً دون أن اقصد التهكم. فمن المؤكد أن هنالك قصوراً ما، واغلب الظن أنه لدي، أنا الذي أنفقت الكثير من الوقت لفهم أسماء من قبيل: يوم الزحف الكبير ويوم البيعة ويوم القدوة ويوم الضاد ويوم النصر العظيم (ولأكثرهن دهشة) يوم الشعب؛ بنفس التفاني في فهم ما يقوله شعراء الحداثة الثمانينيون.إذا قبلت (دون فهم) كل الأيام السابقة على أنها فجوة بين الكلمة ومعناها الاعتباطي (كما يقول دوسوسير). فلا يمكن القبول بـ (يوم الشعب). لا أقبله ليس بمعنى الرفض، بقدر أني لا أستطيع قبوله، هكذا وبكل براءة، لا أستطيع تمريره إلى عقلي حتى من باب قراءة شعر حداثتنا الكئيب. وفي كل الأحوال كان عليَّ آنذاك رؤية الشعب خلال شبحيته الفاجعة أسهل من رؤيته خلال يومه المزعوم.  في تعليق طريف صدر من احد أصدقائنا الموهوبين في مجموعة (نريد أن نعرف) لخص سوء الفهم الأبدي بقوله: طالما احترت في تفسير جملة، "فليخسأ الخاسئون". فإذا كانوا خاسئين فعلاً فكيف يخسأون؟  هل نستطيع إن نقول فليجلس الجالسون. سوء الفهم يتطور ويبدو إني لست الوحيد غير القادر على سبر الغاز قادة الجمهورية، شجعت نفسي على قبول ما اسمع كنوع من فكاهة دراماتيكية، كما حدث لـ "لودفيك" جراء مزحة ثقيلة مع صديقته كلفته خمسة أعوام من العمل الإجباري في احد مناجم الفحم في جمهوريته الشيوعية.لكن هل يصح المزح في جمهورية سورتها الجدية والشوارب الثخينة والمسدسات؟ في مزحة صبيانية قديمة (اشعر بالخوف كلما تذكرتها) حيث كنت عائدا (مع صديق لي) من "صوب الشامية" إلى "صوب السيراي" في مدينة الناصرية. كان في ذالك العام، انقلاب ميزان الحرب مع إيران. وكانت قوافل القتلى تجري (كنهر ثالث) من الفاو إلى حمرين، ومع هذا كانت الجمهورية ترقص على أهازيج فناني تلفزيون بغداد. هنالك احتفال كبير، كبير جداً، يقطعه القائد بهذيانه (الذي قبلناه في النهاية على انه تسلية إجبارية بديلة عن برنامج "صور من المعركة" المرعب). كان صديقي "ف" بطل العالم في التنظير لشيوعية بدأت تفقد بريقها، مع ذلك حَملّني الجريدة  التي كان يزودنا بها أحد الأصدقاء. كنت أضعها تحت حزامي (كخنجر قديم لم يعد يحمله غيري)، أصوات الاحتفالات تأتينا من كل مكان وكان الناس فرحين (أو هكذا بدوا) والأيام تريد إن تستطيل حتى أن "أسبوع قادسية صدام" يريد التشبث بالزمن ليصبح شهراً.كانت الاحتفالات بمناسبة ذلك الأسبوع الغرائبي وكانت (أيضاً) التقويض التدريجي لإنسانية بدأت تغرب ببطء. سمعت صوت سيارة تتوقف فجأة خلفنا وذلك الصوت المرعب يهتف بنا: لك قشمر، توقف. هل جربتم أن تروا الكون كجريدة؟ صغيرة، بائسة واسمها مكتوب بلون أحمر نزق "طريق الشعب". الرجل الغليظ فتش "ف" وكنت أقف خلفه بكل احترام وصبر بانتظار دوري في التفتيش (إذا ما مكتبت رواية سأخصص نصفها لوصف هذا الانتظار). وعندما جاء دوري عرفت ما هو حجم التشابه بين الخوف وبين الموت... مع الاثنين تشعر بأنك غير موجود.لم يجد الغليظ الجريدة وبدلاً من قوله: اذهب صفعني بكفه المتضخمة، شعرت بسقوط مطر بارد على وجهي. توالت الصفعات، لم اعرف لماذا! (فانا متأكد انه لم يجد الجريدة) ولم تعد هي مصدر قلقي بل شيء آخر، غير محدوس ولا مُفكر فيه، كنت كبطل محاكمة "كافكا" وهو يستعرض حياته كلها للعثور على خطأ لم يرتكب

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

كاريكاتير

كاريكاتير

ميثم راضيميثم راضي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram