صلاح نيازي لندن يصف عامة الناس ببريطانيا، الشخصَ السياسيَّ بأنه محتال، ومن أمارات حيله، استعماله للغة ذات اللسانيْن Double- talk. يهتمّ بها لا للتعبير عن المعنى وإنما لإخفائه أو تمويهه. تصبح علاقته باللغة مثل علاقة مصطفى بزوجته ألفيرا في أوبرا "إيطالية بالجزائر" لروسّيني، فهو لا يريد من تعداد فضائلها، إلاّ لإيقاع شخص آخر في الزواج بها!
يرى جونثان دمبلبي في المقطع الآتي من مسرحية "يوليوس قيصر" لشيكسبير، وخاصة خطبة مارك انتوني الشهيرة، بعضَ الصفات المشتركة بين السياسيين:لكنّ بروتس يقول إنه كان طمّاعا/ وبروتس رجل شريف !/ لقد جاء روما بالعديد من الأسرى/ ملأت فداهم بيت المال/ أفكان هذا ينمُّ عن طمع في قيصر؟/ كان قيصر ينتحب حين يبكي الفقير/ لعمري لا بدّ من أن يكون الطمع/ قد جُبِلَ من طينة أقسى من هذا/ يقول بروتس إنه كان طماعاً.وبروتس رجل شريف"*يقول دمبلبي: "جعل أنتوني الجمهور يقف إلى جانبه، كما أنه يذكرنا بقاعدة أساسية في السياسة، ألا وهي: كلما كان هدفك أكثر التواءً، وجب عليك الظهور بمظهر الاستقامة. وفي هذا القول لازمة هي: كلما بدا لك السياسي أكثر وضوحاً، وجب عليك أن تمتحن نيّته".السياسي العربي في بعض الأحيان يغمض بلفّ ويتلعثم بدوران، لا لأنه يناور بحذق، وإنما إما لأنه لا يعرف نيّة رئيسه بعد، أو لأنّه " آخر مَنْ يعلم".هل الفرق بين هذا السياسي العربي وذاك الأجنبيّ إلاّ الفرق، بين بطليْن قومييْن، بين ذهنيتين شرقية وغربية. الذهنية العربية –إجمالاً- تميل إلى الشجاعة العضلية والثقة بالنفس واستصغار ما هو خصم. ظهر مثل هذا البطل في رواية "أولاد حارتنا لنجيب محفوظ. يقول الكاتب في جبل :"وما أن يجد شاب في نفسه جرأة، أو في عضلاته قوة، حتى يندفع إلى التحرّش بالآخرين والاعتداء على المسالمين فيفرض نفسه فتوة على حي من أحياء الحارة ويأخذ الاتاوات من العاملين" (بالمناسبة ما من كتاب شاع فيه- كما يبدو- الضرب بالأيدي كما في هذه الرواية). إذا أردنا أن نتعرف إلى هوية أُمّة فلا بدَ من التعرّف إلى البطل القومي وكيف تتم صناعته عبر السنين. إنّه موجود في كل مفصل ولكن لا يمكن تحديد شكله. مع ذلك يتمظهر في الفنون المنظورة والمسموعة وفي اللغة وأفانينها، وعلى الأخص اللغة الشعرية. لا بدّ إذن من التعرف على البيئة الأساسية الحاضنة للشعر. كيف نفهم الشعر الإنكليزي ما لم نفهم البحر، ورموزه الدينية والفولكلورية والتجارية والقرصنية. وكيف نفهم الشعر العربي، ما لم نفهم الصحراء وبعيرها ورموزها الدينية والفولكلورية وأعرابها وعشاقها المجانين. قد نكابر ونقول ماتت الصحراء .قضت عليها المدينة والتكنولوجيا، ولكنْ هل ماتت حقاً؟هل اختلف البطل القومي الآن عن صورته التي انحدرت إلينا؟ألمْ يتحكّم بنا العهد السابق بعقلية البطل العضلي وقيمه المتخلفة؟ اعتقد العرب القدامى، أنّ لكل شاعر جنيّاً خاصاً يقوّله الشعر، ولولاه لأصبح على"لسانه حجَرُ" كما يقول أحمد شوقي. هل الجني هذا إلاّ أحد وجوه بطلنا القومي المحافظ؟ الصورة التي انحدرت إلينا عنه كما في حماستي أبي تمام والبحتري وعموم شعر الحماسة بأنه عملاق قوي عضلي، عتيد عنود، جراحه نياشينه، ورمحه لسانه ومن العيب أن يموت حتف أنفه.يقول عمر بن كلثوم:كأنّ سيوفنا منّا ومنهم/ مخاريقٌ بأيدي لاعبينا(المخاريق جمع مخراق، وهو منديل أو نحوه، يُلوى فيُضرب به في لعبة للصبيان). هكذا جعل هذا الشاعر الموت لعبة، مجرد لعبة ولأنّ كنى عن الصبيان باللاعبينا فإنما جعل الموت لعبة بريئة وتسلية. لكن قبل التلميح لدور العضلة في الأدب العربي لنقرأ القصيدة الصينية الآتية وفيها نتعرف الى البطل القومي هناك. الصينيّون كالعرب يعتقدون أنّ "ثقافتهم تعبّر عن نفسها أكثر عن طريق الشعر" كما يقول روبرت بين Robert Payne . القصيدة من تأليف تو فوTu Fu (713-770) ويعتبر من أعظم شعراء الصين:"بيتي محاط بنهر صافٍ/ في أيام الصيف الطويلة ثمة صمت كصمت دير/ إلاّ حيث السنونوات تخطف بين حِزَم الأشعة/ أو حيث النورس البرّي يلعب بلا خوف في النهر/ زوجتي تسطّر مربعات للعب الشطرنج/ وولدي الصغير يطرّق شُعَباً من سلك"/ تشيع في هذه المقطوعة الصغيرة كل أسباب الأمان. فالبيت منعزل، يرون عليه الصمت الخلاق.ربما من الصعب أن نجد مقطوعة عربية تشاكل قصيدة "توفو" حيث العائلة الثلاثية ملمومة مع بعضها. عزل الشاعر البيت بنهر فأصبح جزيرة صغيرة، وحين جعله صافياً إنما جعله هادئاً غير مكدر. الثلاثة منشغلون عن بعضهم ولكنهم متآلفون بالعمل. العمل لا ريب هو البطل القومي في الأدبين الصيني والياباني. إتقان العمل هو غاية الطلب.وحتى يزيد الشاعر من قيمة العمل وهيبته وربما قدسيته، جعله يرون على البيت كصمت دير، وكأن في العمل عبادة وابتهالاً، أو كأنّ العمل بحدّ ذاته صلاة، وخشوعها في حركتها. ومما زاد في أمان الصورة، لعب النورس بالماء وقد وصفه بالبراءة وليس ذلك اعتباطاً.بطلنا القومي يستهين بهذه القصيدة - كاتباً أو قارئاً- لأنه لا يؤمن إلاّ ب
المغترِب والبطل القومي الموروث
نشر في: 17 ديسمبر, 2011: 06:51 م