قبل عام على وفاته كتب سعد الله ونوس رسالة المسرح العالمي باسم كل مسرحيي العالم؛ فكان أول عربي يكلف بهذاالشرف.. وفي ذكرى رحيله تعيد تشرين نص الرسالة.. ونقول لروحه: اننا محكومون بالأمل. ‏ «كلفني المعهد الدولي للمسرح التابع لليونسكو بكتابة «رسالة يوم المسرح العالمي» لعام 1996 وقدكتبت هذه الرسالة التالية التي ترجمت الى لغات العديد من بلدان العالم وقرئت على مسارحها». ‏
لو جرت العادة على أن يكون للاحتفال بيوم المسرح العالمي عنوان وثيق الصلة بالحاجات التي يلبيها المسرح ولو على المستوى الرمزي لاخترت لاحتفالنا اليوم هذا العنوان «الجوع الى الحوار»: حوار متعدد مركب، وشامل، حوار بين الأفراد وحوار بين الجماعات. ومن البدهي ان هذا الحوار يقتضي تعميم الديمقراطية واحترام التعددية وكبح النزعة العدوانية عند الأفراد والأمم على السواء، وعندما أحس هذا الجوع وأدرك إلحاحه وضرورته فإني أتخيل دائماً أن هذا الحوار يبدأ من المسرح ثم يتموج متسعاً ومتنامياً حتى يشمل العالم على اختلاف شعوبه وتنوع ثقافاته وأنا أعتقد ان المسرح، ورغم كل الثورات التكنولوجية، سيظل ذلك المكان النموذجي الذي يتأمل فيه الانسان شرطه التاريخي والوجودي معاً. وميزة المسرح التي تجعله مكاناً لا يضاهى هي المتفرج يكسر فيه محارته كي يتأمل الشرط الانساني في سياق جماعي يوقظ انتماءه الى الجماعة ويعلمه غنى الحوار وتعدد مستوياته فهناك حوار يتم داخل العرض المسرحي وهناك حوار مضمر بين العرض والمتفرج، وهناك حوار ثالث بين المتفرجين أنفسهم.. وفي مستوى أبعد هناك حوار بين الاحتفال المسرحي عرضاً وجمهوراً وبين المدينة التي يتم فيها هذا الاحتفال.. وفي كل مستوى من مستويات الحوار هذه ننعتق من كآبة وحدتنا ونزداد احساساً ووعياً بجماعيتنا. ومن هنا فإن المسرح ليس تجلياً من تجليات المجتمع المدني فحسب بل هو شرط من شروط قيام هذا المجتمع وضرورة من ضرورات نموه وازدهاره. ولكن عن أي مسرح اتكلم؟! هل أحلم أم هل أستثير الحنين الى الفترات التي كان المسرح فيها بالفعل حدثاً يفجر في المدينة الحوار والمتعة؟! لا يجوز ان نخادع أنفسنا؛ فالمسرح يتقهقر.. وكيفما تطلعت فإني أرى كيف تضيق المدن بمسارحها وتجبرها على التقوقع في هوامش مهملة ومعتمة بينما تتوالد وتتكاثر في فضاءات هذه المدن الأضواء والشاشات الملونة والتفاهات المعلبة. لا أعرف فترة عانى فيها المسرح مثل هذا العوز المادي والمعنوي فالمخصصات التي كانت تغذيه تضمر سنة بعد سنة والرعاية التي كان يحاط بها تحولت الى اهمال شبيه بالازدراء غالباً ما يتستر وراء خطاب تشجيعي ومنافق، وما دمنا لا نريد ان نخادع أنفسنا فعلينا الاعتراف بأن المسرح في عالمنا الراهن بعيد عن أن يكون ذلك الاحتفال المدني الذي يهبنا فسحة للتأمل والحوار ووعي انتمائنا الانساني العميق. وأزمة المسرح رغم خصوصيتها هي جزء من أزمة تشمل الثقافة بعامة ولا أظن اننا نحتاج الى البرهنة على أزمة الثقافة وما تعانيه الأخرى من حصار وتهميش شبه منهجيين، وانها لمفارقة غريبة ان يتم ذلك كله في الوقت الذي توفرت فيه ثروات حولت العالم الى قرية واحدة وجعلت العولمة واقعاً يتبلور ويتأكد يوماً بعد يوم، ومع هذه التحولات وتراكم تلك الثروات كان يأمل المرء ان تتحقق تلك اليوتوبيا التي طالما حلم بها الانسان. يوتوبيا ان نحيا في عالم واحد متضافر تتقاسم شعوبه خيرات الأرض دون غبن وتزدهر فيه انسانية الانسان دون حيف أو عدوان ولكن يا للخيبة! فإن العولمة التي تتبلور وتتأكد في نهاية قرننا العشرين تكاد تكون النقيض الجذري لتلك اليوتوبيا التي بشر بها الفلاسفة وغذت رؤى الانسان عبر القرون فهي تزيد الغبن في الثروات وتعمق الهوة بين الدول الفاحشة الغنى والشعوب الفقيرة والجائعة كما أنها تدمر دون رحمة كل أشكال التلاحم داخل الجماعات وتمزقها الى أفراد تضنيهم الوحدة والكآبة.. ولأنه لا يوجد اي تصور عن المستقبل ولأن البشر وربما لأول مرة في العالم لم يعودوا يجرؤون على الحلم فإن الشرط الانساني في نهايات هذا القرن يبدو قاتماً ومحبطاًَ.. وقد نفهم بشكل أفضل مغزى تهميش الثقافة حيث ندرك انه في الوقت الذي غدت فيه شروط الثورة معقدة وصعبة فإن الثقافة هي التي تشكل اليوم الجبهة الرئيسة لمواجهة هذه العولمة الأنانية والخالية من أي بعد انساني.. فالثقافة هي التي يمكن ان تبلور المواقف النقدية التي تعري ما يحدث وتكشف آلياته وهي التي يمكن ان تعين الانسان على استعادة انسانيته وان تقترح له الأفكار والمثل التي تجعله أكثر حرية ووعياً وجمالاً، وفي هذا الاطار فإن للمسرح دوراً جوهرياً في انجاز هذه المهام النقدية والابداعية التي تتصدى لها الثقافة فالمسرح هو الذي سيدربنا عبر المشاركة والأمثولة على رأب الصدوع والتمزقات التي أصابت جسد الجماعة وهو الذي سيحيي الحوار الذي نفتقده جميعاً وأنا أؤمن أن بدء الحوار الجاد والشامل هو خطوة البداية لمواجهة الوضع المحبط الذي يحاصر عالمنا في نهاية هذا القرن. ‏ إننا محكومون بالأمل وما يحدث اليوم لا يمكن ان يكون نهاية التاريخ منذ أربعة أعوام وأنا أقاوم السرطان وكانت الكتابة وللمسرح بالذات أهم وسائل مقاومتي.. خلال السنوات الأربع كتبت وبصورة محمومة أعمالاً مسرحية عديدة ولكن ذات يوم سئلت وبما يشبه اللوم ولِمَ هذ
اننا محكومون بالامل
نشر في: 2 أكتوبر, 2009: 07:01 م