فاضل السلطاني إذن رحل كريستوفر هيتشينز، الصحافي والكاتب" ذو اللسان السليط" وارتاح كثيرون من معاركه الثقافية والفكرية والسياسية، التي قد تكن الأكبر في السنوات العشرين الأخيرة، ليس فقط في وطنه الأم بريطانيا، التي تركها"هربا من نظامها الطبقي"، أو في وطنه المتبنى أميركا،
وإنما في الساحة الدولية. ونقول الساحة بالمعنى الحقيقي، وليس المجازي. كان العالم كله، وخاصة العالم البائس، الفقير، المبتلى بالقمع والحروب، ساحة معركته، وخاصة العراق. كان هيتشينز من المثقفين الأوروبيين اليساريين القلائل، الذين وقفوا إلى جانب الشعب العراقي. وكان يقول لأولئك الذي راهنوا على صدام حسين "لأنه عدو للإمبريالية الأميركية!" بأن " حكم صدام حسين سيزول ذات يوم. وفي هذا اليوم، نريد أن ننظر في عيون العراقيين، ونقول لهم: نحن كنا مهتمين بأمركم أيضاً". كان يسخر من هؤلاء المثقفين " الذين يذهبون إلى أسرتهم وهم يرددون لتبرير مواقفهم السلبية المخجلة: ماذا نستطيع أن نفعل لصدام حسين أو سلوبودان أو طالبان؟". وما أكثر هؤلاء المثقفون، غربا وعربا، في الأمس واليوم، الذين يتفرجون وما يزالون يتفرجون على المذابح التي جرت و تجري أمام أعينهم، كما حدث في العراق بالأمس، ويحدث الآن في سوريا، بشكل معكوس هذه المرة، إذ ها هي حكومتنا تتواطأ مع الجلاد، وها نحن صامتون عن مجازر الجلاد، متناسين أن حكم بشار الأسد، كحكم صدام حسين، لا بد من أن يزول ذات يوم، قرب ذلك اليوم أم بعد. لكننا حينئذ لا نستطيع أن نقول للسوريين، الأقرب لنا، كما قال هيتشينز للعراقيين، الأبعد عنه، :" كنا نفكر بكم". لم يكتف هيتشينز بالتضامن اللفظي مع العراق، بل ترجم ذلك إلى فعل. فذهب إلى كردستان عام 1991، والتقى المقاتلين الكرد. وزار العراق أيضا عام 2087 ليتعرف إلى الشعب الذي دافع عنه من بعيد. لقد عاهد نفسه بأن يقضي مرة واحدة في السنة بعض الوقت في كل بلد"ليس محظوظا كبلده"، فزار البرتغال وبولندة، والأرجنتين، حيث خاض معارك شهيرة مع جنرالات هذا البلد، كما زار رومانيا، وأوغندا، وماليزيا، وفنزويلا.جسّد هيتشينز مفهوم المثقف الملتزم، في وقت أصبح فيه هذا المفهوم مدعاة للسخرية بعد أن قتلته الإيديولوجيا العمياء حين حشرته ضمن إيديولوجيا ضيقة، مفرغة إياه من معناه الإنساني الشامل، أي الوقوف مع قضية الحرية، والبشر المعذبين في الأرض، وحق الإنسان في اختياره مهما كان نوع هذا الاختيار. وقاده هذا الالتزام الإنساني المجرد إلى الصدام مع شخصيات مثل كيسنجر، الذي وصفه بـ" الكذاب الكبير"، والأم تريزا، التي اتهمها بأنها تزرع الأوهام في عقول الفقراء من خلال "أعمالها الخيرية". كذلك دخل في نقاش شهير مع توني بلير، بعدما اعتنق الكاثوليكية. وأجمع المراقبون آنذاك أن بلير يحتاج إلى وقت طويل قبل أن ينسى هزيمته أمام هيتشينز. أما معاركه الأشهر، فكانت مع رجال الدين. كان هيتشينز يؤمن بأن كل الأديان التي تتحول إلى مؤسسات ، ومنها الأديان الأرضية، تبعث على اليقين في عصر متغير لا يقين ولا ثبات فيه، مجهضة بذلك التفكير الإنساني الخلاق.. وزاد موقفه هذا تشددا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فهاجم الفاشية: التي ترتدي "لبوسا إسلامياً"، وهاجم الكنيسة أيضاً، متهما إياه باللاعقلانية، وعدم التسامح، وحتى بالعنصرية. وبقي ثابتا على مواقفه حتى أيامه الأخيرة. لقد تصور بعض رجال الدين إن هيتشينز، في محنة مرضه الذي لا شفاء منه، قد يضعف ويندم على كتاباته وآرائه ، لكنهم لم يسمعوا منه، وهو على فراش الموت، سوى التهكم من قناعاتهم.يقول عنه سايمون هوغرت، كاتب العمود في جريدة "الغارديان البريطانية":" لم أعرف أحدا أكثر قراءة من هيتشينز، وأغزر منه كتابة أيضا". أما الروائي المعروف أيان مكيوان فكتب في الجريدة نفسها أن شغف هيتشينز بالقراءة، وكتابة الملاحظات، والنقاش الفكري العميق، الذي اشتهر به طوال حياته، لم يفارقه حتى وهو يعيش أيامه الأخيرة، وعلى مشارف نهاية معركته الخاسرة، هذه المرة، مع السرطان، الذي لم يسلم هو أيضاً من تهكمه:"مرضي متوقع ومبتذل حتى إنه يصيبني بالملل".
هيتشينز والعراقيون.. نحن والسوريون
نشر في: 19 ديسمبر, 2011: 06:24 م