الابداع وعمليةالكتابةفي البداية سألني سعد الله عن رأيي في القصص القصيرة التي سبق له ان نشرها في الستينيات في الصحف المحلية، ومن بين المجموعة كانت قصة (الذبابة الجائعة) وهي واحدة من نصين سرديين قصيرين كان قد اعطاني اياهما للقراءة، بعد نص (الاجداد) و(عينان) وسننشر كل هذه النصوص السردية التي تنتمي لفترة البدايات فيما بعد، في كتاب عن (الذاكرة والموت).. واظنه كان يريد رأيا في هذا النمط من الكتابة.
في هذه المرحلة كانت النقاشات بيننا تدور حول كتابة (الانا) أناه، حاجته لمثل هذا النوع من الكتابة في هذه المرحلة، مدى تمسكه بكتابة المسرح الذي يخفي انا الكاتب وراء الشخصيات.. والحقيقة اني اكتشفت من خلال هذه بالحوارات، ان سعد الله ونوس، الكاتب المسرحي لم يتوقف يوما خلال حياته عن كتابة النص المختلف، واقصد هنا النص (السردي) من الخاطرة الى القصة القصيرة والمذكرات الى تدوين الملاحظات والتعليقات لكنه غالبا ما تعامل مع نصه السردي هذا وكأنه (حيزه الخاص) الذي يتوجه به لنفسه اكثر من توجهه للاخرين او للقارئ.هذا النوع من النصوص ورغم ما يحمله من بعد رمزي، يسمح له في احيان كثيرة، بالتعبير بشكل اوضح عن (الانا) واكاد استطرد لاقول ان البعد السردي دخل مسرحه عندما قرر ان يتحرر من اقنعته نوعا ما، وان يعبر بعض الشيء عن هاجسه الكثيرة في المرحلة الاخيرة من كتابته.عودة الى النص وعنوانه (الذبابة الجائعة)، كما ورد يومها في قصاصة الصحيفة (سيجري عليه فيما بعد تعديلات بسيطة)..كان الوقت ظهرا.. والوان الغرفة النظيفة تلتمع رغم انسدال الستائر ببريق هادئ يعطي احساسا ممتعا بالنظافة.ولم يكن ذلك هو احساس الذبابة الصغيرة التي تتقافز على طلاء السقف الاشهب بانزعاج وضيق.. (لقد ولدت منذ يوم واحد فقط ولم تتعلم بعد اي شيء عن تلك التراكما الغامضة التي تزحم عينيها)..كانت وحيدة.. كانت جائعة.. وشيء غامض قاس يحرك في صميمها حزنا يمتزج بالدهشة الحائرة، وطنت كما لو انها تستغيث ثم راحت تهوم، فيما احاسيسها المكتئبة تنمو وتحتد.كانت الغرفة واسعة كالعالم.. وما من ذبابة اخرى تلوح على المدى البعيد.. ولحظتها كان بوسعها ان تهتف ملء جوارحها صادقة:-اني جائعة.. وحزينة.. ولكن حتى لو صرخت فمن الذي كان سيسمعها؟!..حطت على منتصف الجدار المقابل لباب يلتحم باطاره، ثم شرعت تنزلق بحركة مضطربة، يفضحها تبعثر عينيها الصغيرتين اللامعتين، لقد ولدت منذ يوم واحد، وكان مشروعا ان تزود ببعض الايضاحات الاولية عن العالم الذي ستحيا فيه، واحد لم يفعل..قادتها ارجلها المتقافزة الى حافر سرير واسع وطويل.. حينئذ ابصرت كتلة حمراء ذات اطار اسود، ونفذة الى خطمها رائحة شهوانية مبهمة.. فاندفعت على الفور كان صوتا حبيبا يناديها.خيمت على سطح، حيث شملتها هبة من تلك الرائحة اكثف واشد تركيزا، ولم تكن امها التي لم تعد تعرفها الان قد علمتها شيئا عن هذه الروائح واخطارها.. ولذا غرزت خرطومها بذهول في السطح اللين الذي تخيم عليه متلذذة بطعم دهني سلس... لكن فجأة، تطوح نحوها جسم هائل، فقفزت الى حافة السرير مرتعدة دون ان تدرك شيئا البتة، وكان النداء الغامض اقوى منها، فانهمرت ثانية على نفس البقعة، وانشبت خرطومها اندفع الجسم الهائل مرة اخرى تصحبه اصوات ضخمة راعدة وبينما كانت تطير، وكل اعضائها الصغيرة ترتجف، كان السرير يئن وجسم ينهض.تلبثت الذبابة الصغيرة التي ولدت منذ يوم واحد، فقط على الحائط القريب من السرير لاهثة.. منذهلة كان كل شيء عجيبا ومدهشا في نفس الوقت، والى حزنها انضافت رعدة رعب، وما مرت لحظات حتى فرقع الى جوارها صوت زاعق، ولمحت كما الحلم العابر شيئا يصطدم بالحائط ازداد لهاثها وهي تقف على الجدار الثاني حذرة، واشتد وجيب قلبها، في حين اخذت الدهشة تزداد حولها التفافا، ولم يكن في ذهنها ماهو واضح عندما شعرت فجأة، ان رأسها يتفجر ويتطاير.. وان اسودادا كثيفا يهبط كالستار وسقطت على الارض ولم تكن قد عرفت شيئا.تاوة السرير ثانية، ثم سكن كل شيء، ومازالت الالوان النظيفة تلمتع ببريق هادئ، لم تلفت هذه الحكاية نظري بشكل خاص او لنقل لم تعجبني بقدر النصوص الاخرى التي كان قد طلب مني ان اقرأها (المشاجرة) او سجلها تسجيلا بصوته (الاجداد).. اما سعد الله فقد قال انه احب هذا النص كثيرا بعد ان كتبه، فسألته ان يشرح لي ما يستهويه فيه وما اراد قوله عبره.. فاذا به يقول فورا..قصة الذبابة هي قصة كائن حي جاء الى هذا العالم وغادره دون ان يعرف لماذا وجد اصلا ولماذا رحل عنه، ثم اضاف ان فكرة الوجود على هذا الشكل وكذلك فكرة عبور الحياة ومغادرتها وكأنها طريق او قدر نمر به، نعيشه دون ان نعي سببا او معنى لوجودنا هو موضوع لطالما ارقه في شبابه لهذا فقصة الذبابة هذه تعنيه بشكل كبير، واخذ يشرح هذا البعد الوجودي الكامن في الفكرة، لن اقول اني احببت الذباب بعد هذا التفسير ولكني فهمت معنى الكتابة عنه.لاحظت بعد ذلك مرارا اهتمامه بالذباب واستخدامه له في قصصه ونصوصه، وعندما سألته عن معنى استخدام الذبابة في النص ذكرني انه في الريف حيث عاش طفولته ومراحل من شبابه، كان الذباب يشكل وجودا حيا ومستمرا ملازما للحياة اليومية كان الحاضر/ الموجود الذي لانعي وجوده الا كعامل ازعاج، ولكنه في الحقيقة وجود يوازي وجودنا بشكل كامل، فلماذا لانتبنى وجهة نظره من وقت لآخر؟.ماري: الموضوع الذي اريد ا
هكذا تكلم سعد الله ونوس
نشر في: 2 أكتوبر, 2009: 07:07 م