ناظم عودة-1-مفهوم الصورة العدميةأودُّ أنْ أحدّد، بدايةً، ما المقصود بالصورة العدمية، وأيّ نوع من العدم تتضمنه هذه الصورة. فهي لا تنتمي إلى التراث الشعري الفوضويّ، وإنما تنتمي إلى التراث العدمي التشاؤميّ. وإذا كانت الفوضوية في الشعر،
كما في الحياة، تقتضي مجتمعاً قائماً على "الحرية" كحقّ من حقوق الإنسان الغربيّ، فإنّ العدمية التشاؤمية، كما لدى المعرّي، هي أقرب إلى المجتمعات المغلقة، سجينة الأنساق الأخلاقية والدينية والثقافية. الفوضوية تتجسد في السلوك، على حين أن التشاؤمية تتجسد أكثر في التفكير. وقصائد عبد الزهرة زكي، تنتمي إلى الرؤية التشاؤمية للزمان أكثر من انتمائها إلى الرؤية الفوضوية. وهي قصائد تعنى بحركة الزمان على المكان في لحظة شعور حادة بهما، تنعكس فيها الذات الممزقة عليها. فهو ليس معنياً بإحداث فوضى تحطّم "الأنساق" وإنما ينسلُ إلى حركة الحطام والخراب اللذين خلّفتهما تجربة شعور عدميّ بالزمان والمكان معاً، فهو كالظاهراتيين الذين ينشغلون بـ "الوصف" انطلاقاً من يقظة المعنى الجديد للظاهرة في الشعور. ولذلك، فإنّ لغته متربّصة دوماً لهذه اليقظة، أو الإلماعة. ولغته ليست لغة ثقافة، بل لغة "تجربة" مخيبة مع الزمان. ويبدو لي أنّ هذه الميزة، هي أجلى ما يميّز تجربة عبد الزهرة زكي التي حافظتْ طوال رحلته الشعرية منذ السبعينيات على تركيز معيّن يتمثّل فيه التحشيد الدلالي. فلغته ليست لغة برهانية، بل لغة ظاهراتية، تصف تجربة معينة تعاني إرهاق الزمان الوجوديّ. ولغته تشارك في التجربة الداخلية لموضوعها، تضيئها وتستضيء بها. بمعنى أنها تمتصّ التجربة من الداخل. فهذه اللغة تقيم مشاركة وجدانية بين الذات والموضوع.rn-2-ويمكن النظر إلى قصيدة "هديل أسود" المنشورة في صحيفة المدى بعددها ليوم 11 آب الماضي وفي كتاب شريط صامت الصادر عن المدى مؤخرا من خلال مقاربة تعنى بالزمن كفعلٍ وتَحوّلٍ. وتنطوي القصيدة نفسها على مقاربات نصية لبناء نفسها بنفسها؛ بمعنى أنّ القصيدة تقاربُ لفكرتها أيضاً من داخل نسيجها اللغويّ. ومقاربة القصيدة لنفسها بكتاب مفتوح: "هذا الدربُ كتابٌ مفتوح" تقتضي بحثاً في حيثيات هذا التشبيه الذي يسمى في البلاغة العربية: التشبيه البليغ. فما معنى أن يشبه الدرب بالكتاب المفتوح؟ إنّ الكتاب، في الأصل اللغويّ العربيّ، الإسلاميّ تحديداً، يعني، الرسالة التي تحمل موعظة معينة، كما في سورة النمل: اذهب بكتابي هذا فألقهِ إليهم. فهذا الكتاب الذي حمله الهدهد إلى بلقيس هو رسالة، والقصيدة تريد أنْ تجعل من الدرب رسالة سيميائية بليغة. والكتاب، أيضاً، كما في اللغات الجرمانية هو: خشب الزان، أو الرسالة أيضاً. وهذا يعني أنّ المشبه به يمتلك في تكوينه بذرة الفناء، لأنّ النباتات تفنى أيضاً. والقصيدة تريد أنْ تبلّغ معنى الفناء برسالة مفتوحةٍ أو غير مختومة. وبصرف النظر عن الوعي بهذا المعنى أو لا، فإنّ تقصي سيرة هذا الدرب، وانعكاس الذات في موجوداته، أو تذويتها، هو محاولة لتلمس "العدم" في الطبيعة والذات. ولا يشير "العدم" دائماً، إلى المضمون الفوضوي الذي أشاعته وجودية سارتر وكامو، وإنما المضمون التشاؤمي الذي أشاعته فلسفة شوبنهاور. ولذلك فإنّ الدرب هو ظاهرة تتشكل في الوعي قبل تشكلها الحقيقي في الواقع، أو قل، هو نوع من أنواع التشويه للواقع ليُظهر المعنى القصدي. أو هو، بوصفه دلالة سيميائية، مدونة كالكتابة تُسجِّل الحركة/الزمن، ومن ثمّ تكون متناً للقراءة. ومنذ البداية أراد هذا النصّ، أنْ يجعل الكتابة والقراءة من مضامينه التي يوحي بها. والدرب الذي شُبِّهَ بالكتاب المفتوح، إنما يُكتَبُ بالحركة الإنسانية، ويُقْرَاُ بوعي ظاهراتي خالص، أو قل، يُقرأ من خلال الذات الخالصة لا العقل المحض، فهو مقروء وقارئ، وهو فعل وفاعل. وكانت العرب، تشبه حركة الزمان على المكان بالكتابة أيضاً. قال لبيد بن أبي ربيعة:وجلا السيولُ عن الطلولِ كأنها زبرٌ تُجِدُّ متونَها أقلامُهـاأو رَجْعُ واشمةٍ أُسِفَّ نَؤورُها كِفَفاً تعرّضَ فوقهُنَّ وشامُهافهذا الشاعر البدويّ، شبّه حركة الزمن المتمثلة بالسيول وما فعلته بالطلول، بالكتابة التي تجدّد متون الزبر، قال الزوزني (486 هـ) شارحاً المعنى: " وكشفت السيول عن أطلال الديار فأظهرتْها بعد ستر التراب إياها، فكأنّ الديار كتب تجدد الأقلامُ كتابتَها، فشبّه كشف السيول عن الأطلال التي غطاها التراب بتجديد الكُتّاب سطور الكِتاب الدارس بظهور السطور بعد دروسها". وكتوكيد لهذا المعنى أردفه بمعنى آخر، هو ترجيع وترديد الواشمة للوشم في الجسد. قال الزوزني أيضاً: " كأنها زبر أو ترديد واشمة وشماً قد ذرت نؤورها في دارات ظَهَرَ الوشام فوقها، فأعادتْها كما تعيد السيولُ الأطلالَ إلى ما كانتْ عليه، فجعل إظهار السيل الأطلال كإظهار الواشمة الوشمَ، وجعل دروسها كدروس الوشم". ولذلك، فإنّ الدرب/ الكتاب المفتوح، هو قدرة الكتاب على الاحت
الصورة العدمية فـي شعر عبد الزهرة زكي
نشر في: 20 ديسمبر, 2011: 06:33 م