فريدة النقاش لو صحّ ما قاله الدكتور حازم حسني أستاذ العلوم السياسية في أحد برامج قناة النيل من أن الذين أشعلوا النار في المجمع العلمي المصري كانوا يهتفون «الله أكبر» «الله أكبر» معلنين انتصارهم على الاستعمار، لأن نابليون بونابرت وعلماء الحملة الفرنسية على مصر من نهاية القرن الثامن عشر هم الذين أنشأوا هذا المجمع وحفظوا فيه مجموعة من الخرائط مع النسخة الأصلية من كتاب (وصف مصر) الذي وضعه علماء الحملة ومصوروها وعدد آخر من الكتب الأساسية -
لو صح هذا القول فإننا نكون بصدد بدء حكم الإسلام السياسي الوهابي الذي ما أن أسفرت نتائج الانتخابات في المرحلتين الأولي والثانية عن تقدمه الصفوف، ولا حتي النتائج حتى بدأ يمارس حالة من الاستعلاء والاستقواء، وتوالت التصريحات التي تنذر النساء والمسيحيين والمفكرين الأحرار، وتوزع الأوصاف البذيئة على كبار كتّابنا وفنانينا، وبدأ قادة هذا التيار وأعضاؤه المشهورون يحتلون المشهد وكأنهم قادمون من العصور الوسطى لا فحسب باللحى والجلابيب وإنما أساسا بالأفكار.وفي هذا المناخ المشحون بالكراهية للثقافة تراجع العقل وتوارت الروح النقدية التي كانت طيلة قرنين ماضيين قد شقت لنفسها طريقا منيرا عبر تقدم العلوم وإنجازات الحضارة الإنسانية والصراع الاجتماعي الذي اشتد حينا وخفت حينا آخر بين تيار الحداثة والعقلانية والتقدم والدولة العصرية العادلة، وبين تيار التأخر والعودة إلى الماضي، وهو التيار الذي بثت فيه الحياة الثروة النفطية التي ظهرت في دول الخليج المحافظة صاحبة المشروع الديني السياسي الرجعي للمنطقة.وبسبب تدفق الثروات استطاع تيار التأخر أن يتوغل في بلدان الوطن العربي الرئيسية التي عرفت تجارب الحداثة والتقدم مبكرا وعلى رأسها مصر مستعينا بحكامها الذين انحازوا لكبار الأغنياء على حساب الشعب وللارتباط بالقوى العظمى على حساب الاستقلال.واكتسح هذا التيار الأخير في طريقه كل القيم الحديثة من المساواة للحرية ،للكرامة الإنسانية، للعدالة ،وهي القيم التي عادت وبرزت بقوة في ظل ثورة 25 يناير بعد أن كان نظام الاستبداد والفساد قد داسها.ومن ضمن القيم الكبيرة التي كسحتها الموجة المظلمة في طريقها قيمة الرؤية الجدلية للعلاقة مع الدول الاستعمارية والغرب عامة حيث جرت مبكرا جدا في مصر التفرقة بين الظاهرة الاستعمارية وعدوانيتها وعنصريتها من جهة وبين التقدم العلمي والحضاري الذي سبقنا الغرب الآخر إليه، فالغرب غربان كما أن كل أمة هي أمتان.وفي نهاية القرن الثامن عشر كانت مجموعة صغيرة من النساء المصريات قد أدركن هذه الفروق حين شاركن في ثورتي القاهرة الأولى والثانية ضد الحملة الفرنسية ولكنهن نظمن بشكل مستقل تظاهرة صغيرة كتب عنها كلوت بك رفعن فيها شعار ضرورة احترام النساء، وطالبن أزواجهن بمعاملتهن باحترام وندية كما يعامل الرجال الفرنسيون زوجاتهم، فقد أدركوا عبر وعي مبكر أن الغرب غربان لا واحد.وفي القرنين التاسع عشر والعشرين أدرك علماؤنا الأجلاء هذه الوضعية المفارقة حين ذهبوا إلى بلدان الغرب وبخاصة فرنسا لينهلوا من منابع العلم والتقدم والحضارة وليعودوا إلى بلادهم لينخرطوا بصورة متباينة في الصراع ضد الاحتلال الأجنبي فرنسيا كان أو إنجليزيا دون أن يشعروا بأنهم متناقضون لأنهم كانوا يفكرون في مستقبل بلادهم باعتبارها - أي البلاد - جزءا من العالم الذي يجري إلى الأمام في ركب الحضارة والديمقراطية محاذرين أن يفوتهم هذا القطار ومدافعين عن الاستقلال في آن. وفي ظل هذا الهدف العظيم نظر علماؤنا وفنانونا الأجلاء إلى الحضارة الإنسانية ككل لا يتجزأ وشعروا بالفخر لأن تراث أمتهم العريق كان في مراحل سابقة من التاريخ الإنساني ولايزال جزءا أصيلا من هذه الحضارة التي أسهمت شعوب العالم كافة في إبداعها كل بنصيب.والشيء المؤكد أن الشباب الذين أشعلوا النار في المجمع العلمي المصري لا يعرفون هذا التاريخ بسبب فقر الثقافة وثقافة الفقر على حد تعبير الراحل العظيم يوسف إدريس وأيا كانت النتائج التي سيتوصل إليها التحقيق حول هذه الفاجعة فإنه من حسن حظ الثقافة والتراث المصريين أن هناك مؤسسات دولية نزيهة أعلنت فورا عن استعدادها لإعادة بناء المجمع وترميم الكتب التي يمكن ترميمها لأن ذلك كله هو جزء من التراث العالمي الذي يهم البشرية كلها وليس المصريين والعرب وحدهم.وكل ما يمكن أن نرجوه الآن ألا يكون هذا الإجرام.. إن كان مقصودا، بداية لممارسات همجية أخرى ضد ثقافتنا وتراثنا.. أي بداية لحكم الإسلام السياسي.
المجمع العلمي.. بداية!
نشر في: 20 ديسمبر, 2011: 10:46 م