فخري كريم
اتخذت قضية طارق الهاشمي، التي كان يُفترض أن تعالج في إطار القضاء، بعيداً عن الإعلام، وبمنأى عن التسييس المباشر، طابع أزمة تستهدف العملية السياسية، وما تحقق لها من مكاسب..
وهي مكاسب في كل حال وان كانت لا ترقى إلى مستوى ما يتطلع إليه الشعب العراقي، من تكريسٍ للاستقرار وضمان الأمن وتعزيز لدولة المؤسسات والقانون والحريات وحقوق الإنسان.
ولقد سبق للمدى قبل يومين وفي (كلام اليوم) أن أوضحت موقفها بالتفصيل من هذه القضية الحساسة، حيث حرصنا في ما نشرناه على أن نكون موضوعيين، بحيث لا يبدو من كلامنا أية نزعة تفسر على أنها محاولة للانتقام من الهاشمي، ولا أية نزعة أخرى تفهم على أنها ضد إجراءات القضاء والعدالة في الاقتصاص ممن يعبث بأمن الناس وحقوقهم. لقد قلنا إن الموضوع يتطلب تركه بيد القضاء العادل الموثوق فيما يراد جهد سياسي آخر لا صلة له بعمل القضاء، وهو جهد يضمن تفادي التداعيات السياسية المتوقعة عن القضية.
ويبدو أننا ملزمون دائما للتحسب للدوافع والتداعيات وذلك لأن جوهر المشاكل دائما يتعلق بطبيعة بناء الدولة والمؤسسات وطبيعة تركيبة القوى السياسية والتمثيل فيها وهو حال يحضر بقوة في أي مشكلة تواجه السياسة أو الأمن.
إن غياب المفهوم الحقيقي لهوية الدولة والتنازع بين أمراء الطوائف على التمويه عليها، من خلال مواصلة التصرف العابث بها على هواهم وفي إطار المحاصصة في تقاسم نهب ثروات البلاد وقضم الحريات العامة والخاصة والتجاوز على حقوق ومصالح المواطنين، أدت إلى تدوير إنتاج الأزمات والحيلولة دون أي تقدمٍ حقيقي باتجاه إنهاء مراوحة البلاد، قدر تعلق الأمر بالأزمة الحقيقية التي تعني المواطن العراقي بغضّ النظر عن توصيفه الديني والمذهبي والعشائري والسياسي، التي تتجسد بانعدام الخدمات في المجالات الحيوية التي تمس صميم مصالح العراقيين.
إن إدانة الهاشمي في قضايا إرهاب أو براءته، أمر موكول للقضاء، وله وحده الحكم بشأنه. وتتطلب المعالجة القضائية وفقاً لسياقات العدالة ومضامينها وأسسها، عزلها "من حيث سير التحقيق ونتائجه" عن السياسة والسلطة التنفيذية المباشرة. لكن القوى السياسية وأطراف العملية السياسية معنيون، دون تدخل في القضاء، بالبحث في البيئة والعوامل التي تساعد في الحيلولة دون التدهور الذي قد يترتب على مثل هذه الحالات، ويفاقم نتائجها، التي من شأنها انزلاق البلاد إلى أزمة أعمق، تعقّد المشهد السياسي وتضفي عليه طابع الاستعصاء على المعالجة.
ويبدو واضحاً اليوم، أن قضية الاتهام الموجه إلى السيد طارق الهاشمي، لا تعدو كونها نتيجة عرضية ثانوية للوضع السياسي الذي اخذ بالتأزّم، وظلت عناصره تتراكم منذ بدء الولاية الثانية للسيد نوري المالكي رئيس الوزراء، والمرتبطة بنهجه في إدارة الحكومة وشؤون الدولة بمختلف مرافقها الحيوية، وهو نهج يتميز بالانفراد والتسلط وتغييب الآخرين خلافا لما اتُّفق عليه، بين الأطراف الرئيسية معه من أسس واشتراطاتٍ وتعهدات. ومن أهم ما اتُّفق عليه في مباحثات أربيل، في إطار مبادرة رئيس إقليم كردستان؛ اعتماد المشاركة الجدية في اتخاذ القرار، وتغليب روح التوافق الوطني، وما تقتضيه من نهجٍ وتوجهاتٍ وتدابير. وتجنّب السلبيات التي رافقت ولاية المالكي الأولى، وكانت في أساس الاعتراضات الواسعة من قبل الكتل السياسية على منحه الثقة في ولاية ثانية، ومن أبرزها النزوع المتزايد لديه نحو الاستئثار في الحكم والانفراد في اتخاذ القرارات، وتغييب الآخرين، حتى المقربين منه، من دون استثناء أعضاء حزبه وقائمته وكتلة التحالف الوطني.
إن استمرار هذه السياسة منذ بدء الولاية الثانية للمالكي، خلقت بيئة مناسبة لتشويه العملية السياسية، وأضفت عليها جواً قاتماً من التشاؤم والشكوك على الصعيد السياسي العام، ونزوعاً نحو اللا أُبالية والقلق في أوساط الجماهير الشعبية الملتاعة والمغلوبة على أمرها. ومثل هذا الوضع يتطلب توجهاً عقلانياً مسؤولاً من الأطراف كافة والكتل السياسية المشاركة في الحكم والمغيبة عنه للالتفاف حول مبادرة لتقويم العملية السياسية تقويماً شاملاً بمختلف جوانبها، الحكومية والبرلمانية وغيرها، لانتشالها من الأزمة الخانقة التي تعيش في دوامتها. ومن الممكن البدء من حيث انتهت مبادرة أربيل والانطلاق من نتائجها الأولية التي تم الاعتراف بها، وبالتواصل مع اللقاءات والاجتماعات التي عقدها وما يزال يواصلها رئيس الجمهورية، وهي بمجملها تتفاعل مع ما يطرحه قادة كتل وقوى يسعون إلى الوصول إلى حلول عملية، إضافة إلى اللقاءات الجارية مؤخرا في كردستان.. والوصول من ذلك إلى اتفاق هو بمستوى برنامج عمل للمرحلة المقبلة.
إن العودة إلى تلك المبادرة تبرّرها، الثقة التي تحظى بها من مختلف الأطراف، والحرص الذي تشعره به القوى المعنية بتقويم وتصحيح المسار السياسي في البلاد إزاء صاحب المبادرة، وما عرف عنها من وقوف على مساحة واحدة من جميع القوى، ما دامت تنطلق من حرصٍ على حماية العراق والحيلولة دون انزلاقه إلى أي صيغة للمواجهة.
ولتفعيل مثل هذا التوجه، لابد من الإبقاء على تدابير القضاء ومقتضياته مستقلاً عن إي إجراءٍ حكومي أو سياسي، وتجنّب خلط الأوراق، ومحاولة ابتزاز الآخرين تحت أي مسوغات أو دوافع. ويتطلب أيضاً ابتعاد الأطراف المتضررة سياسياً، والقائمة العراقية بالذات من التشنج والتعامل بردود أفعال متسرعة، بل على العكس من ذلك إبداء الحرص على مقتضيات العدالة وموجبات القانون، باعتبارها طرفاً مسؤولاً ومعنياً بمصائر البلاد. كما يستلزم من أطراف الحكم المقررة الابتعاد عن لغة التهديد والتعالي، والظهور بمظهر صاحب الولاية على مقدرات البلاد.
إن الأزمة التي تصاعدت خلال الأيام الماضية، تطرح تحديا سياسيا على جميع الأطراف، وفي مقدمتها، من بيدها زمام المبادرة وسلطة القرار، وهو امتحان للعملية السياسية والتوافق الوطني وقيم المشاركة السياسية، ومدى فعاليتها وقدرتها على تجاوز الصعاب، وتجاوز المخاطر التي قد تطيح بالوضع القائم، وتدفعه إلى متاهات الصراع المنفلت.. لكن كل هذا لا ينبغي أن يفهم منه أن مطالب وضرورات الإصلاح المطلوبة هي نتاج لمشكلة الهاشمي، وإنما هي، كما أوضحنا، نتاج لتراكم لم يعالج في حينه، وكانت (المدى) كثيرا ما قد أشارت إلى ذلك.
لقد أكدت التجربة أن وحدة القوى والارتقاء إلى مستوى المصالح الوطنية العليا، وتجاوز النزعات الفئوية والطائفية الضيقة والالتزام بالاتفاقات الجماعية وبالمبادئ المعروفة عن العمل المؤسسي، طريقٌ سالك للعبور نحو المعافاة.