شاكر الانباري إن أقسى ما يواجهه الفرد في الحياة هو الضحك على عقله، واستغفاله، والتذاكي عليه، خاصة لمن لا يستطيع الرد على ديكتاتور الضجيج والفكر والتحليل المدجج بالمال والسلطة، كونه لا يملك وسيلة إعلامية، ولا يملك حزبا سياسيا، أو فضائية تبث من خارج البلد، ولا يقر بانتمائه إلى طائفة بعينها سوى طائفة العراق.
يذكرني ما يجري أمامنا اليوم بماض بعيد. في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، حين كان المواطن البسيط، الممتلك لعقل يفكر ووعي منطقي، يواجه الماكنة الإعلامية لحزب البعث، والماكنة الإعلامية للفكر السياسي العربي، الرسمي، الماكنة التي تعتمد على وشايات، وتقولات، وتحريض، لا تدري إلى أي كائن موجه. هو يحمل من العموميات الكثير، ويحمل كراهية دفينة لشخص ما، لحزب ما، لطائفة ما، لقومية ما، لحضارة ما. لكن ذلك الخطاب لا يقول لـ(القطيع) الذي هو الشعب من هو المعني بكل ذلك التحريض، والتشويه، وقلب الطاولات، وخلط الأوراق وتفليشها ونثرها بطرق باطنية تتذاكى على العقول. نحن نواجه البصمة ذاتها، بصمة تخوين العقل، وتغييبه، والحجر عليه، بسيل من البيانات والشائعات والتحليلات التي لا تمت إلى المنطق بصلة. هو منطق تعويم الحدث، واستغلاله، وابتزازه، وعصره سياسيا، ليخدم رسالة معدة مسبقة. وهنا تكمن الخطورة. وكأن ثمة جهة ما، شبحا ما، وحشا خرافيا ما، يخطط بـ(وعي) لرسم لوحة سوريالية لما نعيشه في الوقت الحاضر. ولما يريد أن يوصلنا إليه في المستقبل القريب. يتم ذلك برغم أن الخارطة أصبحت واضحة، وذهبت الاصطفافات كلا إلى ضفة، ورحل (الأبطال) كلا إلى بيته الحميم، بيته الدافئ بوعي الطائفة وتاريخها، وصراعاتها، وأحقادها. الشعاب الجبلية لم تعد تخفي أي اثر سري، لكن البعض يصر على توجيه تحليلات أكروباتيكية يمينا وشمالا، كما لو يرغب في القول إن ارض الناس ليست محروثة ومفلوحة حتى الآن، لذلك يسهل زرعها بالضغائن والفتن. زرعها بالطائفية، ورؤوسها الميدوزية الأخطبوطية ذات الألف وجه ووجه. وعودة الى عقد السبعينيات عقد الماكنة البعثية.والإعلام الموجه والمفبرك. الإعلام المتذاكي الذي يضحك على ذقون الناس، فيضرب الجاهل لكي يرتعب المتعلم، ذلك الإخطبوط قادنا إلى تصفيات حزبية كئيبة، وهجرات ومنافي، ليتوج عقد الثمانينيات بحرب دموية مع إيران أكلت من عمرنا ما يقرب العقد، وظلت خوازيقها نابتة، مبعثرة في أرض الوطن. هل يعيد التاريخ نفسه؟ وهل يختفي خلف كل هذا الضجيج، التعبوي، الديماغوجي، مخطط يحشد الأتباع للقضاء على كل ما أسس في السنوات السابقة؟ أمامنا في المسافات الفاصلة عن السنة الجديدة تهويل يتسرب قليلا قليلا إلى الشارع، الشارع الذي اطمأن إلى انه غادر مسارب الطائفية وصراعاتها المميتة الى الأبد. لكنه اليوم يتلمس رأسه، ويعيش كوابيس الجثث مجهولة الهوية، وغزوات القتل الليلية، وشعارات الموت والتكفير الهادرة. المشكلة مع القادة العرب، وكما شهدنا ذلك في بلدان الثورات المستعرة، أنهم لا يتعضون من أندادهم، ولا يقرأون الأحداث بحصافة، لهذا ينتهون مغمضي العيون، والعقول، الى مصائرهم الحزينة، والمتشابهة.
كلمات عارية:مصادرة العقل
نشر في: 23 ديسمبر, 2011: 09:09 م