TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > الافتتاحية:نحو تقويمٍ شامل للعملية السياسية-3-في توصيف هشاشة الدولة وتشوّهاتها..

الافتتاحية:نحو تقويمٍ شامل للعملية السياسية-3-في توصيف هشاشة الدولة وتشوّهاتها..

نشر في: 24 ديسمبر, 2011: 10:31 م

 فخري كريم

خلافاً للأمل الذي ضاع في مجرى الصراع بين أمراء الطوائف ولصوص المال  العام، أُعيد بناء الدولة المنشودة على خرائب النظام الاستبدادي،

وبالتزاوج  الفضّ مع تلاوين طائفية، تقاسمت أرحام ذاك النظام وأضفت لبوسها الخاص،  وعمدتهم بمفرداتها وقيمها المتخلّفة وزينت صورهم ليتماشوا مع الأدوار  الجديدة المنوطة بهم، فضاع المؤمن الحقيقي بينهم، لكثـرة إطلاق اللحى بتنوع  أشكالها، ووسمته "أختام" الورع والإيمان على الجباه، للتستر على الماضي  المخزي لمن كان بين الأدوات الأسوأ في العهود السابقة.

 وأصبح حتماً على المواطنين أن يواجهوا، وهم يتابعون معاملاتهم في مختلف دوائر ومؤسسات الدولة، نفس الوجوه التي كانت تتولى مسؤولية الأجهزة الأمنية فيها، أو ممثلي فدائيي صدام وأزلام عدي، وقد استبدلوا صور "القائد الضرورة "بالتسبيح وهم يلهجون بالآيات الكريمة، مع تلميحات ضمنية للمراجعين، تذكرهم بمقاماتهم الجديدة ومراجع قوتهم، وبما يعيد للمراجعين المذهولين، صورة الماضي وهو يتخذ اللبوس الجديد الذي ينطوي على الوعيد بـ"التكفير" والقصاص من ناكري الجميل!

وعلى مر السنوات التي تتابعت على العهد الديمقراطي الجديد، حلت تكوينات " ما قبل الدولة " محل المؤسسات التي تقوم في اساس اي دولة معاصرة، بغض النظر عن مضامينها. تستوي في هذا بلدان افريقيا الحديثة التكوين والدول الآسيوية الأبوية.

ولم يعد تكرار الحديث من قبل قادة الدولة، عن القانون والمؤسسات والسلطات الثلاث واستقلاليتها، سوى تأكيد لمضيهم في تكريس أسس "اللا دولة" وإشاعة مفاهيمها وتقاليدها وممارساتها. وبات المواطن يفرد قاموسه الخاص للمصطلحات التي أطلقها قادة الأحزاب والكتل على تنظيماتهم ومحاورهم. فأينما التقط الناس مصطلح "دولة القانون" ترجموها، إلى مملكة رئيس الوزراء، وشريعة اللا قانون، أو القانون الذي يتجاوز الدستور والتشريعات والأعراف وتطويعها لما يراه القائد العام للقوات المسلحة والحاكم بأمره للدولة "الأنوية". ومصطلحات "المواطن"،"والوطنية"، "والمدنية"، "والعراقية" ومثيلاتها التي ازدانت بها شوارع وأزقة بغداد ومدن وحواضر البلاد الأخرى، إبان الانتخابات التشريعية، وما تزال المقرات الحزبية تتزين بها، أصبحت تعني في وعي المواطن نقيضاً لها بامتياز، أي المتحزب الغليظ، وابن الطائفي الموالي، والمتشبّع بمفاهيم العداء للمدنية والحضارة ودولة المؤسسات والقانون، والمُرتَهن لدولة "سخية" عربية أو إقليمية أو عابرة للقارات.

ولم تعد تخفى على الناس التمويهات على المعاني الحقيقية لما اعتاد على التنابز والتشاتم بها، قادة الكتل والفرقاء وهم يتبادلون اتهام بعضهم البعض، بالفساد وانعدام النزاهة، ولا حقيقة ما تتضمنه الخطب غير البلاغية من وعود بالإصلاح والتغيير والتنمية، فكلها لا تعكس سوى الانغماس أكثر فأكثر في مستنقعات النهب والسرقة والاعتداء على مقدراتهم ومصالحهم، ولا يعكس الخلاف المستور سوى التكالب على الحصص والأسلاب.

فأين هي الدولة ومؤسساتها من المظاهر التالية؟:

أولاً: تحويل الوزارات وأجهزتها ومؤسساتها إلى أُطرٍ حزبية تُدين بالولاء لحزب الوزير والمتنفذين فيه، يُعاد ترتيب مراتبها، كلما تغيّر الوزير، وتتغير معها التزكيات المطلوبة للتعيين، بدءاً من الساعي والمنظفين المساكين، وكلها تكتسب معنىً امنياً، إذ لا يجوز أن تنسلّ بين أيٍّ من هؤلاء إلى حرم الوزير والموظفين الكبار عناصر مندسة من الأطراف الأخرى، ليس مهماً إن كان من طائفة الوزير نفسها، ولكن ليس من حزبه ومواليه، ولا يحمل "فرماناً" من مرجعية الوزير.

ويوماً بعد آخر تتحول الوزارات إلى بدائل عن المساجد والحسينيات، وتضيع ساعات الدوام بطقوسٍ في غير مواقيتها، وتتبدد آمال المراجعين "المؤمنين" حقاً وبلا نفاق، بإنجاز معاملاتهم، ومنهم من هو قادمٌ من محافظاتٍ وقصباتٍ نائية، دون أن يتجرأ احد منهم، في إبداء الشكوى والاحتجاج على السلوك المنافي للقيم الدينية الحقة التي يتبجّح بها الموظفون، المتقاعسون عن تأدية مهامهم. وقد استشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة التسابق بين المسؤولين الكبار برفع اللافتات والصور الدينية، بمناسباتٍ وبدونها.

وقد ترهلت الوزارات بالمحسوبيات والبطالة المُقنّعة، على حساب الكفاءات والخبرة المكتسبة والاستحقاق الوظيفي، وأُثقلت بمئات الوكلاء والمدراء العامين "غير المسلكيين" الفائضين عن الحاجة لغرض تأمين المحاصصات الحزبية، مما أفقر الوزارات ودوائرها، واضعف أداءها وتسييرها وإيقاعها الوظيفي، وعطل قدرتها على إنجاز مهامها. وفي مثل هذه الأجواء التي استشرت فيها المحسوبيات والعصبيات المذهبية والحزبية والمناطقية، وغابت عنها المؤسسات الضامنة للنهوض بالمهام، احتل الارتجال والأمزجة الفردية والمصالح الضيقة الأمكنة الحساسة، بديلاً عن البرمجة والعمل المنهجي المؤسساتي.

ثانياً: في تعبيرٍ خطيرٍ عن نزعة الهيمنة والانفراد التي تتسم بها أُطر الدولة والسلطة العليا، تتشعب مراكز القرار وتتخذ لها امتدادات في سائر الجسد الحكومي، وتصطدم الإرادات المتقاطعة، لتؤدي في المحصلة النهائية، إلى تعطيل البرامج الحكومية والإضرار بمصالح المواطنين. ويبرز في هذا السياق التدخل المباشر وغير المرئي لسلطة مكتب رئيس الوزراء والقائد العام والقائمين بأعماله في مختلف الوزارات ومرافق الحكومة و"الهيئات المستقلة" حيث يظهر الدور المشوش والمعطل. كما تؤثر الحساسيات بين المرجعيات الحكومية وأولياء أمورها ومراكز القرار المركزية، في إضفاء المزيد من التعقيد على هذا المشهد.

ثالثاً: إن التوسع في الهيكلة الحكومية، ومضاعفة عديد الموظفين والدرجات الوظيفية، يجري خارج إستراتيجية معللة تأخذ بالاعتبار متطلبات التنمية المستدامة وموضوعاتها وأهدافها ومتطلباتها، والحاجات الفعلية للبلد والقدرات الكامنة على إنجازها، من حيث توفّر الطاقات والثروات والاحتياطيات وغيرها من المعايير العالمية المعتمدة. ومثل هذا التخبط السائد، المقصود به التنفيس المؤقت عن النقمة العامة التي تنجم عن تزايد أعداد العاطلين عن العمل، وخصوصا من حشد الخريجين من الجامعات "دون تخطيط" مسبق للفروع والقطاعات المطلوبة عن تحديد عديد المنتسبين إلى الكليات، بمراعاة الحاجات القطاعية لكل فرع، وكذلك بسبب الفقر المستشري والأعداد المليونية من اسر شهداء الإرهاب والحروب والأرامل والأيتام الذين يعيشون بلا مصدر رزق وإعانات كافية من الصناديق الاجتماعية الشحيحة.

وفي إطار هذه السياسات الكيفية، تتوسّع دائرة البطالة الحقيقية، بإضافة البطالة المقنعة، وبدلاً من تحسن الأداء الحكومي مع هذا الترهل والتعجيل في إنجاز المشاريع الحكومية، ومعاملات المواطنين، يزداد التعثر فيها ويأخذ أبعاداً اجتماعية ونفسية، إضافة للبعد السياسي الذي يسم الحكومة والدولة بالفشل والإخفاق المتكرر.

وفي غياب تخطيط علميٍ مسبّب، ُتدوّر الميزانيات الاستثمارية التنموية المخصصة للوزارات، ويجري معها تدوير المشاريع الخدمية الحيوية للمواطنين، حاملة معها بصمات الفساد والنهب.

رابعاً: حمل التحول الذي أعقب إسقاط الدكتاتورية في نيسان ٢٠٠٣ وعداً، بإعادة بناء قواتٍ مسلحة، يجري تدريبها على أسسٍ حضارية، تتثقف بمفاهيم وقيم احترام حقوق الإنسان والاستناد إلى القانون وفي إطار المساءلة الشديدة لأي خرقٍ تنال من هذه القيم والحقوق. لكن ما ساد، وبشكل خاص، على أيدي الأجهزة الأمنية والمخابراتية والعسكرية التابعة لإمرة رئيس الوزراء ومكتبه، لم يتجاوز تلك المعايير فحسب، بل وتساوق في أكثر من مناسبة مع ما كانت تقوم به أجهزة البعث الصدامي، دون أي مبالغة.

ومن الملفت، هذا التوسع في عديد القوات المسلحة بمختلف صنوفها، وهو توسعٌ استهدف وضع حدٍ للإرهاب وتأمين سلامة الشعب، والعمل على حماية حدود البلاد وتكريس الاستقرار فيه. لكن شيئاً من ذلك لم يتحقق، بل استمرت الخروقات، وتضاعفت، واتخذت طابعاً متحدياً من حيث التوقيت أو الاستهداف، أو التزامن.

والواضح ان التخطيط في هذا الميدان الحيوي والخطير، اعتبر التوسع العددي، أو اعتماد المعلومات الاستخبارية، بديلاً، عن خلق البيئة السياسية الشعبية المتعاطفة، والتي تحتاج قبل كل شيء إلى "مصالحة وطنية مجتمعية" وليس إلى اتفاقات فوقية معزولة، تُبنى على أساس تسوياتٍ مخلةٍ، "وبوس لحى" يتبادلها قادة الكتل، كما تحتاج إلى معالجة المشاكل المعيشية المتفاقمة، وتفعيل آلية عقلانية لتنشيط الدورة الاقتصادية، والتعجيل بانجاز البنية التحتية، بما يؤمن الكهرباء والماء الصالح للشرب، وفرص العمل المتساوية، ووضع حدٍ بأدوات ووسائل شفافة وعلنية للفساد والنهب والمحسوبية، وجميع مظاهر التفسخ التي تؤطر النشاط الحكومي، ومظاهر "التنمر" والتعالي والغطرسة التي تسود في دوائر الدولة وفي الشارع السياسي أيضاً.

إن أي حديث للمصالحة خارج هذا الإطار، إنما هو مضيعةٌ للوقت والجهد، وليس بمستطاعه التقدم خطوة جدية، لإيقاف مسلسل القتل والإرهاب. ولابد من التأكيد على أن البيئة الشعبية الإيجابية المتعاطفة، لا يمكن أن تسود، دون إحساس المواطن، بان تضحياته، لا تذهب سدىً، أو تصب في خدمة النهّابين واللصوص. وان الدولة تتحول شيئاً فشيئاً إلى مساحةٍ مضيئةٍ، وفضاءً مفتوحاً للأمل وباباً للفرج المؤجل.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram