في النجف التي مررت بها سريعاً أشياء كثيرة تدعو للتفاؤل في قارة اليأس العراقية. وهي أيضاً نموذج لمدننا التي لم تعثر على طريقها الأساسي بعد. وضمن تيهها عبر القرون ومحاولتها العثور على منفذ للنجاة، يبدو لي أنها أضاعت الكوفة "اليمنية" رغم عثورها المتكرر على "الحيرة" المسيحية.
العمل المنجز في المسافة الفاصلة بين النجف القديمة والكوفة أمر يستحق التقدير. شوارع حديثة تفاجئك نظافتها، وجسور يقول عماد الخفاجي إنها تذكره بديترويت. وفيها قصر منيف للثقافة شيدته شركة تركية لتزرع منشأة فخمة في قلب الفرات الأوسط المهمل منذ عقود. أما المدينة القديمة حول مرقد الإمام علي فهي تخضع لعملية قلب مفتوح لا ادري متى ستنتهي، وهناك حفر وإنشاءات ضخمة تحاول فك اختناق الأسواق والمسافرخانات العتيقة عن منطقة الصحن الحيدري. وفي الحفرة الكبيرة تبدو طبقات التراب والرمل وهي تروي تواريخ المدينة. ومن خلال الصورة المقطعية التي رسمتها الحفارات تبدو بنايات الشارع مشيدة فوق بيت اثري منذ ثمانين عاما، وتحت البيت الأثري واحد أقدم منه وسراديب ربما نحتها في الأرض فقهاء أصفهان الهاربون من جور نادر شاه قبل ٤ قرون.
وحول هذه الإنشاءات امتدت العناية إلى السوق الأثري المسقوف ثم خربت واجهته عند المدخل الشمالي بغلاف من الألمنيوم اللماع "الكوبوند" الذي بدأ يأكل وجه مدن العراق وتغلف به شناشيل بغداد نفسها بطريقة مؤسفة.
وكسواح تائهين رحنا نستكشف الأزقة القديمة مسرعين، هنا مدرسة اليزدي صاحب العروة الوثقى وهناك مرقد الطوسي مؤلف المبسوط وشيخ الطائفة، وهذا بيت يعاد ترميمه بدون ألمنيوم "الالكوبوند" بل يستعيد شناشيلنا التراثية بخشب أنيق وحديث. أول مرة في العراق أشاهد بيتا حديثا يستخدم شناشيل جديدة. لمن هذه الدار ومن هو صاحب الذوق الرفيع؟ وسرعان ما يأتيك الجواب: إن هذا منزل آية الله الخميني يوم سكن النجف في الستينات. شيخ إيراني جاء لتفقد المكان ذكر لنا أن طهران اشترت المنزل وقررت إعادة بنائه وفق طراز محلي! إن عمل الأعاجم أوثق وأشد كما قال ابن خلدون يوما، وهو يتحدث عنا نحن الأمة الكسولة الفرحانة بالالكوبوند.
وعند نهايات العمران خلف الصحن، تشعر أنك تطل على مستقبل المدينة. انه بحر النجف الناشف وأساطير سفينة نوح قربه، وحكايات الأهالي عن افتتاح طرق حديثة تفك اختناق السوق القديم لتفتح الطريق أمام استثمار الوادي الهائل المزين ببساتين النخيل.
أسباب الأسف تتراجع قليلا حين تتعرف في سوق الكتب على رجال دين مستنيرين لا يعادون الحداثة ويرحبون بحوار بين العلمانية والدين ويقرأون نقد التراث وكتب اركون وسروش وابي زيد والرصافي، ويعتبون على اليسار انه يقسو عليهم في أحيان كثيرة أو يتجاهل النجف بتنوعها الفكري.
اما الجزء الكوفي من النجف فلم يبدأ مستوى العمران ذاته فيه. شوارع عادية ومبان منخفضة وعتيقة. المحافظ المثابر عدنان الزرفي يقول انه بدأ بإنشاء بنيتها التحتية ونظم أحوال مناطقها السكنية وان المرحلة المقبلة ستضمن شكلا مختلفا للكوفة.
لكنني وحوالي مسجدها القديم تذكرت الكسائي والفراء ومدرسة اللغة والحديث والفقه، ومتكلمي الأشاعرة والمعتزلة. فقد حافظت البصرة على قبر للحسن البصري ورابعة العدوية وابن سيرين، وهم يرقدون على أطراف الزبير إلى جانب طالب النقيب وسليمان فيضي وبدر شاكر السياب. ولبغداد آثار لا تحصى عن تلك العهود. فما بال الكوفة لم تحفظ أثرا لنحوي أو راوية شعر أو متكلم في اللاهوت، برغم أنها مركز اعتنى بأهل البيت وآثارهم ومراقد تابعيهم؟
إن الكوفة التي تعثر اليوم على أديرة الحيرة وكنائس المناذرة وبقايا النعمان، أضاعت وسط فوضى التاريخ وقسوته، أثراً ودليلا مهما على مكانتها في إمبراطورية المسلمين الغابرة. تحت ترابها يرقد جزء مهم من الفكر العربي والإسلامي لا اهتدي إليه أنا وسواي. انه استمرار لسيرة الاندثار التي راح ضحيتها تاريخ الإنسان بين هذين النهرين، وأضاع فرصا حاسمة لاهل العراق. وحسب الأحلام التي سمعناها من اهل النجف والكوفة إنها تحاول حماية ما تبقى من فرص المستقبل.