أوس عزالدين عباس العقل الإنساني عادة ما يكون متعطشا للحقيقة بقوة كقوة الحياة في شتلة تصارع لمدّ جذورها وأغصانها للحصول على الضوء والماء لصنع غذائها، والمعرفة العميقة تمكننا من فهم أنفسنا وعالمنا بطريقة نستطيع أن نحكم بها أنفسنا بالمسؤولية، وأن نلتزم بعادات الاتصال والتي يمكننا أن نطلق عليها مصطلح ((الديمقراطية الشخصية)).
ومع دخولنا عالم الإعلام الجديد الغامض والمملوء بالأعاجيب، فليس من الغريب أن يشعر بعضنا بالخوف من مجرد التفكير بما قد يواجهنا مستقبلا، فالمستقبل يبدو غير آمن بالنسبة لنا، ونحن نسعى إلى بذل ما بوسعنا للخلاص من الإحساس بالخدر الناتج عن إغراقنا بكمية كبيرة جدا من التغييرات الحاصلة وبسرعة هائلة، والتي لا نستطيع التعامل معها، وهذا هو ما قصده ((أليفن توفلر)) بالنسبة لمصطلح ((صدمة المستقبل))، فالتغييرات الأولية للتغيّر الاجتماعي الهائل يمكنها أن تتناقل لعدة أجيال، فعلى سبيل المثال إن بعض المناطق من عالمنا الآن لم تدخل حتى الآن العصر الصناعي الجديد، فما بالنا بعصر المعلومات؟ولقد أنتجت تقنيات الإعلام الجديدة، والتي صارت تربك العقل، معلومات فائضة عن الحد الطبيعي، بالإضافة إلى عوامل ثقافية أخرى، والتي هي في الوقت نفسه السبب الرئيسي لما يدعى بـ(( صدمة المستقبل))، وبالنظر للملايين التي صرفت على بناء شبكات اتصال عالمية كما أوضح ((مات تاولر)) ويضيف : ((نحن نراهن على مستقبل الحياة والإنسانية على الأرض، لأن الإنترنيت العالمي لوسائل الإعلام التفاعلية نعمة بدلا من كونها نقمة، ولكن هل ستنجح شبكات الإعلام العالمية باستعبادنا أم بتحريرنا؟، ولعله من المبكر جدا لما ستؤول إليه الأمور، وفي الحالتين فإن الأمر يعتمد على كل واحد منا، أي على خياراتنا الشخصية، وعلى نظام القيم الذي نتبعه يوميا في اختيارنا لكيفية التفاعل وبوعي كامل مع عالمنا التفاعلي، فالمشكلة تكمن إذا في إننا نخشى نحن من تحمل مسؤولية التفكير بوعي، فالحل الحقيقي لصدمة المستقبل هو المعرفة العميقة للآليات وغايات وسائل الإعلام)). وبالإمكان ملاحظة مدى ما يحدث على كوكبنا الآن، فالمؤسسات الإعلامية اليوم وعلى مدى عدة أجيال قادمة تقوم بتأسيس بنى تحتية للاتصالات العالمية التفاعلية والمتكاملة من جميع الجوانب، والتي تصل إلى كل بقعة من بقاع الأرض تقريبا، وقد تم قطع أشواط كبيرة وعديدة في المجال التقني ابتداءً من أسلاك النحاس، والتي تحمل التلغراف بواسطة شفرة معينة، إلى أسلاك النحاس ذات السلكين الملتفين حول بعضهما والتي تحمل الأصوات والفاكسات والمعلومات بصورة عامة، حتى تطورت إلى استحداث الأسلاك المحورية والألياف البصرية التي توفّر مجموعة كبيرة جدا من الخدمات لم تكن قبل ذلك ممكنة كالتلفزيون التفاعلي.وقبل أكثر من عقد من الزمان تم التوصل إلى خدمات البث الأرضية والفضائية، حيث إننا نعيش الآن تقاربا عالميا للتلفزيون والتلفون والحاسوب بنظام تفاعلي واحد يربطها معا، مغيرا إلى الأبد كل الطرق التي اعتمدناها سابقا في حياتنا اليومية، حيث لم يحصل مثل هذا الشيء وبهذه السرعة من قبل.وبإمكان العقل المثقف أن يجد الحلول من خلال الأزمات والتي قد يغفل عنها العقل الجاهل، فإذا كنا محظوظين كأطفال وحظينا بآباء ومعلمين لدرجة أن يغرسوا فينا عادات التعلم طوال العمر، وإذا كان قد تم تشجيعنا على الصبر والحرص على جميع الحقائق الأولية وتنظيمها على شكل معلومات تؤدي إلى المعرفة، عندئذ سيكون ممكنا أن يأتي اليوم الذي نحظى فيه بنعمة الحكمة الخالصة، وحينها سنتعلم من تلقاء أنفسنا بأن المعرفة هي أداة قوية حقا وقادرة على تغييرنا كأفراد ومجاميع حالها حال إتقان إشعال النار أو اختراع العجلة.ويفسر العلماء واللغويون الطريقة التي نستخدم فيها اللغات المختلفة لوصف الحقيقة بأنها الطريقة التي ندرك فيها العالم من حولنا وأية خيارات يمكن أن نصل إليها لتغيير واقعنا، ولربما من المناسب لنا أن نسأل أنفسنا : (( كيف سيكون التاريخ مختلفا تماما فيما لو اخترع السومريون الكتابة المسمارية ؟ ))، ولذلك فإن هذا الاختراع قد أسهم في تغيير الحضارة الإنسانية بشكل كبير جدا، وكذلك اختراع الإنترنيت فقد يكون له على الأقل نفس التأثير، سواء كان هذا التأثير إيجابيا أم سلبيا، فالأمر يعتمد على خياراتنا.وللحصول على لمحة مستقبلية عما ينتظر الإنسانية، وبينما نحن مشغولون ببناء شبكة الإنترنيت والشبكات الأخرى، كشبكات الفيديو والصوت والبيانات، لذلك لنلقي نظرة على ماحدث منذ اختراع الطباعة الحديثة، وبإمكاننا أن نناقش المزايا الأخلاقية لعدة كتاب، ولكن أفكارنا لن تكون نفسها بدون وجود هذا الإنتاج الضخم لطباعة الكتب ونقل الأفكار عبر الزمان والمكان، فضلا عن إن عملية نشر الكتب وتسويقها هي صناعة عالمية متينة، وهي مصدر معيشي كبير يعتمد عليه الكثير من الناس، فهل يمكن الملاحظة كيف إن الإنترنيت قد غير الكثير من أنظمة العمل القديمة حتى صار على الناس التلاؤم مع هذا النظام الجديد؟ ومهنة التدريس مثال آخر، فمع توافر الإنترنيت، وبتوافر الحاسوب لدى الطالب، فإناستعمال كلمة (( بحث )) رئيسة في محرك البحث للمواد الدراسية، فإن النتيجة ستكون صاعقة. وعلى الرغم من تجاوز عمر الإنترنيت لعقد من الزمن، إلا إن فضولنا ل
الديمقراطية الشخصية وتقنيات الإعلام المستقبلي
نشر في: 24 ديسمبر, 2011: 09:12 م