سرمد الطائيانه أول مقال لي في المدى منذ نحو خمسة أعوام. وبدل أن أحاول تذكّر الشهور الأولى من "العملية السياسية" والتي أمضيتها في أروقة هذه المؤسسة مع "أشهى حبات العنقود"، فإنني أتحدث اليوم عن "سيناريو نسيان" رهيب يصيبنا كوباء جماعي.
عاد رئيس الحكومة نوري المالكي من واشنطن في آخر ساعات العام الماضي وأغلق "باب العراق" بإحكام وراح يحدق في وجوه "العائلة الكريمة (الشعب)" وهو يحاول ان يرسم على وجهه ابتسامة صعبة بمناسبة انه وجد نفسه لأول مرة بمفرده مع العائلة ومن دون أمريكان. ثم راح يقنعنا بوجود ألف سبب للاحتفال. وبدل أن نقول له (نحن الشعب)، ان لدينا ألف سبب للاحتجاج، استكمالا لمناخ سياسي طازج يفترض أن العراق دخله توا على اساس القواعد الإقليمية والمحلية الجديدة، نجح المالكي في إقناع الغالبية، بأن هناك ألف سبب للاحتفال بنسيان العام الماضي والانشغال بمعركة تعود إلى "ما قبل الربيع العربي" حيث تاريخ حروب الطوائف المقيت الذي أردنا نسيانه.أمضينا العام 2011 ونحن نتدبر في سقوط مراكز القوى المستبدة. "انتفاضة الكهرباء" اندلعت عام 2010 في البصرة والناصرية ثم تنقلت كأول احتجاج مدني، في أكثر من 10 محافظات، وتحولت الى احتجاج واسع تزامنا مع "ربيع العرب" راح يرسم تقاليده ويفرض على الساسة أن يخضعوا لمنطقه، رغم تراجع عدد المحتجين وخفوت صوتهم خلال الأسابيع الأخيرة.أمضينا 2011 ونحن نتأسف على ارتباك الحكومة مع المتظاهرين، وسقوط الضحايا في صفوف الشباب المحتج، ومهازل ارتكبتها قيادات العمليات في بغداد وسواها من المدن. أمضينا السنة تلك ونحن نتأسف على رحيل أبطال مثل هادي المهدي.ساسة العراق امضوا تلك السنة بخوف وترقب. وحاولوا التجاوب ولو لفظيا، مع مطالب المحتجين. الصدريون أيدوا استبدال كبار المسؤولين التنفيذيين الذين أخفقوا في مسؤولياتهم، والمالكي وعد بنشر جردة حساب لـ"المئة يوم" الشهيرة وقام بخفض راتبه مرتين (ثم تراجع عن ذلك)، كما ان النجيفي تحدث عن إمكانية تنظيم انتخابات مبكرة. ثم لم يحصل أي من ذلك.وسائل الإعلام تحمّست وانهمكت في جردة حساب لفشلٍ منيت به تلك الحكومة المحلية أو الوزارة الكذائية، في إنفاق ميزانيتها، ثم لاحقت هذا "الأمين" وذاك "الخائن" وتحدثت بحزن عن تغييب صوت الشيخ صباح والقاضي رحيم. وكنا ننظر لاستمرار الاحتجاجات في سوريا واليمن وحراك المجتمع المدني في مصر، واحتمال دخول الإصلاحية الايرانية على الخط، كسبب لتطوير طرائق الاحتجاج... إلا أن الأسابيع الاخيرة من العام الماضي كانت تشهد إعدادا صامتا لسيناريو نسيان رهيب لا اصدق انه يتحقق.ولصناعة هذا السيناريو لم يبذل المالكي جهدا يذكر، ولم يكلف نفسه الا بخطوة عادية أدت إلى نسياننا كل شيء. لقد استل ملفا يعود لطارق الهاشمي "بين كومة ملفات شبيهة تعود لأصدقائه وخصومه على حد سواء" ووضعه على الطاولة فنجح في جعلنا ننسى كل شيء. نسينا الكهرباء العاطلة والمحطات الموعودة، وقذارة شوارع بغداد والبصرة، والأمن المفقود منذ عقد في الموصل، والبؤس في أزقة كربلاء والإهمال الشديد لديالى. نسينا كل من سقط في احتجاجات 2011. صمتت صحافتنا ومحطاتنا عن معظم تلك الملفات وصار شغل الناس الشاغل "أزمة طارق الهاشمي" التي تشبه في جوهرها اتهامات بتورط كل أمراء الحرب من كل الطوائف، بدمائنا طيلة أعوام. وهو ملف حساب يئسنا منذ أعوام أيضا من إمكانية فتحه بشكل محايد، وكيف الحياد بعد أعوام من "تخبط الجميع في دم الجميع"؟ولذلك ستنتهي أزمة طارق، لكن نوري لن يعدم حيلة في ابتداع أزمة شبيهة. نسياننا الراهن لملف الاحتجاجات، سيشجع نوري على جعلنا ننسى دوما. لقد اكتشف "موهبة نادرة" لدى الشعب تجعله يغفل. ولم يكن في وسع المالكي أن ينجح لولا "موهبة النسيان" الفظيعة التي حبتنا بها آلهة تاريخنا.كان علينا أن نبدأ 2012 بتذكر ما يستحق أن نتذكر، فقمنا بتدشينه بالنسيان. الآلهة تريد منا أن نتجاهل على "مذبح الطوائف" ما تشاء من أخطائها.
عـالَـم آخــر: المـالكـــــي نســــيان 2011

نشر في: 9 يناير, 2012: 09:37 م