اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > حيرة الوجود بين الوتري والشابّي

حيرة الوجود بين الوتري والشابّي

نشر في: 10 يناير, 2012: 06:10 م

صلاح نيازيكان الشاعر العراقي أكرم الوتري (صاحب الديوان الوحيد:" الوتر الجاحد"  المطبوع عام 1947)، معنياً بالدرجة الأولى بالخواء ، لاسيّما خواء المدينة، قيمُها، أهلوها، أغانيها المتكررة السقيمة، "فجورها وتقواها". المدينة بالنسبة للوتري قدره. هي جحيمه وجنّته لأنها مسقط رأسه، وفيها نشأ وترعرع. لا مفرّ. بعكس السياب الريفي، ما أن تلتبس عليه المدينة، وتستعصي عليه مغاليقها، حتى يفزع إلى القرية وحياتها البسيطة، ملاذاً ومنجى. مدينة الوتري بهذه المثابة اختناق، لا يُفضي إلاّ إلى حيرة، لكنْ من نوع غريب. عنوان قصيدة الوتري :"العالم المجهد"، وهي، وإنْ اختلفت معنى ومبنى، أشبه بحيرة أبي القاسم الشابّي في قصيدة :"في ظلّ وادي الموت"..
تبدأ قصيدة العالم المجهد:يا أختُ مات الفجرُ من عالمٍ/ أهيمُ في أركانه الباليهْ/ وكلّما ودّعتُ يوماً مضى/ فزعتُ من أيّاميَ الباقيهْ/ كأنّما عمري وأوهامَهُ/ قهقهةٌ في غرفةٍ خاليهْ...    عنوان القصيدة مفتاح لها وجزءٌ أساسي منها. تتميز الأبيات أعلاه بحركات ميتةٍ، إذا صحّ التعبير، تراوح في مكانها. أو هكذا تبدو.(ألحّ الشعر العراقي في الأربعينات والخمسينات على الحصان  ذي الحركة الثابتة ربما تأثراً بحصان جورج اورويل دون دلالاته السياسية).تبدأ القصيدة بحرف النداء : يا. ترتبط هذه الصيغة في الشعر العراقي الحزين بالندب والاستنجاد والتضرّع، كما في الأدعية الدينية، وقد أبتذلتْ لحدّ الملل في الأغاني الشعبية.. لازمت هذه الصيغة شعر الجواهري إلى نهاية حياته، حتى أصبحتْ لديه كدوزنة للآلات الموسيقية لا علاقة لها بالنص الموسيقي الأصلي، إلا بقدر ضبط الأوتار.يا: بهذا المعنى، تكشف، ومرة واحدة، عن انهيار الراوية، مستصرخاً مَنْ ينجده أو مَنْ يشاركه محنته في الأقلّ. إنه حائر. عاجز كذلك.أمّا : مات الفجر، فتوكيد لحالة الندب، والظلام ثوب حداده. ربما معنى الفجر أعلاه: الصباح. هل كان الوتري متأثراً بقاموس الشابّي الذي شاع فيه الصباح شيوعاً لا مثيل له في الشعر العربي، ولكنْ بدلالات مختلفة.يدخلنا الوتري في ملكوت الليل، فيبطل حاسة النظر، لتنوب عنها حاسة السمع. كل صوت غير متوقع مفزع. يقول راوية القصيدة:كأنما عمري وأوهامه/ قهقهةٌ في غرفةٍ خاليهْهول هذه القهقهة ناجم من تزمينها، ومن عدم توقعها. كان راوية القصيدة مستوفزاً من هول ما يرى من بلى، فإذا به يسمع فجأة، قهقهة وكأنها صادرة من شبح غير منظور. أكثر من ذلك فإن موسيقى كلمة القهقهة ( بتكرار حرفيْ القاف والهاء) بالذات، وكأنها لا ترتطم بالجدران فقط، وإنما بأصدائها العقيمة.المقطع الآتي في قصيدة الوتري وهو ما يعنينا:أسأل نفسي حين أمضي بها/ أما لهذا الجهد من مقصدِ/ وأنصت المسمع في وحدتي/ إلى لهاث العالم المجهدِ/ كأنّه يهمس في سيره/ إني مع الموت على موعدِ...قد لا نشطّ كثيراً إذا ما قارنا المقطع أعلاه، بالأبيات الأربعة الأولى من قصيدة :"في ظلّ وادي الموت" لأبي القاسم الشابّي:نحن نمشي وحولنا هذه الأكوانُ/ تمشي لكنْ لأية غايهْ/ نحن نشدو مع العصافير للشمس/ وهذا الربيع ينفخ نايهْ/ نحن نتلو روايةَ الكون للموت/ ولكنْ ماذا ختامُ الروايهْ؟/ هكذا قلتُ للرياح فقالتْ/ "سلْ ضميرَ الوجود كيف البدايهْ؟بالمقارنة فإن قصيدة الوتري مشدودة بوزن شعري جازم الإيقاع (بحر السريع: مستفعلنْ مستفعلنْ فاعلنْ). تفعيلتان مندفعتان وثالثة كابحة.  طّوّر الشعراء العراقيون المحدثون هذا البحر منذ أواخر الأربعينات من القرن الماضي تطويراً فريداً قلّ نظيره في الشعر العربي).اختار الشابّي لقصيدته بحر الخفيف وهو بحر جليل الإيقاع وفخم (فاعلاتُنْ مسْتَفْعِلنْ فاعلاتنْ). الجدير بالذكر أن هذا البحر شاع في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي شيوعا عزّ له مثيل في أيّ عصر سابق كما يبدو. وممن أجادوا بهذا البحر، إلياس أبو شبكة على وجه الخصوص، وإيليا أبو ماضي، وبولص سلامة (وكلّهم لبنانيّون)، إلاّ أنّ الشابي أعطى لتفاعيل هذا الوزن مفاتن موسيقية طازجة ونغمات يانعة. وما دمنا بذكر الموسيقى فإن الأبيات الثلاثة الأولى من أبيات الشابي، كلها أبيات مدوّرة، وكأن أسئلته لهاث متواصل، يبدو فيها الشاعر متحرقاّ. أما البيت الرابع فمقسّم إلى شطريْن: صدر وعجز. سأل فيها الشاعر الرياح في الصدر، ثمّ أصغى للجواب في العجز :فقالتْ... على أية حال، مسرح قصيدة الشابي مضاء ورحْب، وذو أبعاد بصرية أشمل. أكثر من ذلك فإن راوية قصيدة الشابي يتحدّث بصيغة الجمع :"نحن"،التي تكررتْ ثلاث مرات في ثلاثة أبيات، وكأنها جوقة نشترك فيها جميعاً. بينما كان راوية قصيدة الوتري يتحدّث بصيغة المفرد، وكأنّ حيرته الوجودية ذاتية محض، تتقلّص فيها الموجودات تدريجياً.حينما قال الشابّي :"وحولنا هذه الأكوان تمشي" ولا سيما كلمة :الأكوان الشاسعة إنما جعل فضاء القصيدة مفتوحاً وعلى مدّ البصر، وبهذه الوسيلة جعلنا نبدو بالنسبة لها مجرد جُسيْمات طافية في فضاء لا نهائي. لكنْ ما الغاية من وراء هذا المشي؟ (ربما أراد الشابي بالمشي هنا الدوران).هل حيرة الشابي هذه هي من سلالة حيرة إيليا أبي ماضي في قصيدة الطلاسم؟ الفرق أننا في قصيدة الشابي سادرون،  لا تؤرقنا الأسئلة الوجودية، فنشدو كالعصافير للشمس لاهين. ثم ينتقل بنا الشابي من الربيع إلى فصل جديد في المسرحية هو الموت.( كانت المسرحية تسمى رواية زمن الشابي):نحن نتلو رواية الكون للموت/ لكنْ ماذا ختام الروايهْهل تلبّس الشابي روح مكبث فتصوَّرَنا مجرد ممثلين نؤدي أدوارنا في الحياة، ونختفي عن وجه الأر

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram