نجم واليهناك عوالم تخاف منها حتى الأشباح. الروائي النيجيري بَن أوكري وصف أحد هذه العوالم في روايته "الشارع الجائع". الشخصية الرئيسية في الرواية أزارو، طفل لم يولد بعد. أنه طفل شبح لا يريد المغامرة بمغادرة عالم الأشباح وينتقل لعالم البشر.
كل زملائه الأشباح الآخرين يفعلون الشيء نفسه. لا يريدون أن يولدوا. جميعهم شاخوا بسبب قسوة الوجود، بسبب الأمنيات غير القابلة للتحقيق، بسبب الموت المتكرر ، بسبب لا أبالية الأحياء وانعدام الشفقة. لكن أزارو يولد رغماً من إرادته. يأتي للعالم ويرى أباه يعمل حمالاً في الأسواق، وأمه بائعة متجولة في الشوارع. العائلة تكافح طوال حياتها ودائماً ما أن تعتقد أنها بدأت تصل الأعالي، حتى يُلقى بها للقاع، حيث الجوع والحرمان والبؤس، وحيث الفئران تملك وجبات غذائية أكثر من البشر.رواية أوكري تصور الفقر من كل جوانبه التي لا ترحم. صحيح أن أحداثها تدور في سنوات الستينات، إلا أنها رغم ذلك، تتنبأ بكل ما سيحدث لاحقاً في الدول "الوطنية" التي بدأت بالذات في تلك السنوات بالتحرر من قيودها "الاستعمارية"، لتدخل مرحلة ما بعد الكولونيالية، المدموغة بكل ما لحق من سلطات ديكتاتورية عسكرية وحكام دجالين، حكموا سابقاً باسم الاشتراكية واليوم باسم الدين!صوت أزارو القادم من عمق تلك السنوات هو مثل نذير شؤم لما لحق من حيف للإنسان في هذه المجتمعات "الحرة" المنافقة: "الجوع يقترب منا مثل كلب باثني عشر رأس"، ومعه يقترب أيضاً: الاضطراب والجنون والحرب. "الدم سينمو في عيون الإنسانية". تنبؤات أوكري "الواقعية السحرية" هي وقائع غير سحرية في قرننا الحادي والعشرين وتصبح كل مرة أكثر قرباً من تلك الكلمة المكررة التي أصبحت "قشرة مجوفة" فارغة من المعنى: "القرية العالمية"، التي يُدعى أنها بازدهار متواصل. فما هو ثابت، أن هناك قسما كبيرا من سكان الأرض ظلوا معزولين من بركة سكان عالم "القرية العالمية" المعنية. هؤلاء الناس سيظلون مرميين إلى الشارع مثل مشردين بثياب مهلهلة.على "الشارع الجائع" الممتد على طول هذه الكرة الأرضية وعرضها، يجرجر اليوم أذيالهم ما يقارب 840 مليوناً من البشر، كما تشير تقارير الأخصائيين الى إحصائيات الجوع من منظمة التغذية العالمية. عدد المصابين بسوء التغذية بتزايد مستمر، عدا الأرقام المخيفة للمصابين بمرض فقدان المناعة المميت، حيث نقرأ رقماً مرعباً: 3 ملايين مريض بالإيدز ماتوا فقط في هذا العام، الأمر الذي لم يحدث مثيله حتى الآن. وكل دقيقة ينقل 10 أشخاص عدوى الفيروس لبعضهم البعض، على الأقل في إفريقيا. لكن في آسيا (ألا تقع البلدان العربية في آسيا!!) أيضاً تضرب إحصائيات العدوى أرقاماً قياسية. هكذا طوقت مقابر الموت بأحزمتها المرعبة القرى والمدن في العالم الثالث جميعاً، وليس هناك من سيظل بمنجى منها! في الأكواخ أطفال يتامى، مات آباؤهم المرضى بالإيدز، بينما ما زالوا هم ينتظرون.الروائي النيجيري بن أوكري قال في مقابلة صحفية، بأن "من الخطأ البحث عن الأعمال البطولية في تاريخ أفريقيا في إنجازات الملوك وما فعلوه، إنما يجب البحث عنها في نضال الناس المرير من أجل البقاء على قيد الحياة، ضد عنف الطبيعة ووحشية البشر". الطقس المعادي والكوارث الطبيعية يمكن مكافحتها بوسائل سياسية. لكن مهما بدت الطبيعة عنيفة فإن عنف البشر يفوقها. أيضاً في "الشارع الجائع" لأوكري تظهر هذه الوجوه مثل مخالب مرعبة: قبضايات ومافيا أحزاب يدورون عبر البودريلات ويختطفون النساء، سياسيون يسكرون حتى الثمالة وبأغنى أنواع المشروبات تحرسهم فرق ضاربة مهمتها طرد البؤس بعيداً عنهم: الرشوة وفساد النخبة التي لا تسمح للآخرين "الجماهير الكادحة" الذين تحكم باسمهم بالمشاركة في صنع القرار، وحيث تنشأ طبقة من السياسيين هدفها الأول هو الحكم من أجل استغلال الآخرين فقط.كيف يمكن لدول تتصرف بهذه الطريقة أن تجعل نفسها مقنعة عندما تقدم نفسها بمظهر الواعظ، بل تعد بتخفيف الفقر حتى النصف لغاية عام 2015 ؟!! (كما صرح سياسي عراقي وهم كثيرون!)، خاصة وأن الواقع يطرح تكهنات متشائمة تقول إن اللعبة المميتة المشتركة لتحالف الرشوة (والفساد كما في العراق)، المرض والجوع ستجعل الأزمة أكثر حدة.هكذا ستكون حال أزارو، الطفل الشبح في رواية بن أوكري، نراه يشعر برعب عندما ينظر حوله ويرى هذا الرجل الذي يلبس ملابس رثة ممزقة، جسده مملوء بالقروح والذباب يطير حواليه. أزارو يخاف فيحاول الهرب. "يركض، لأنه يستطيع أن يشم جنون الرجل". رغم ذلك يحاول الرجل القبض عليه، القبض على ظلال الطفل، أمر يجعله يقول: " شعرت به مثل حضور مرعب، لا أستطيع الهروب منه". تُرى ماذا سيقول أزارو العراقي، الطفل الذي يجوب مع الآلاف من زملائه مزابل البلاد، لكي يصف عالمه الذي ترتعش فيه من الخوف حتى الأشباح!
منطقة محررة: عام آخر وعوالم تخاف منها حتى الأشباح
نشر في: 10 يناير, 2012: 06:12 م