TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > قرطاس :طفل إسبارطيّ

قرطاس :طفل إسبارطيّ

نشر في: 11 يناير, 2012: 07:47 م

 أحمد عبد الحسين في إسبارطة القديمة كان إذا وُلد لهم مولود ذكر ألقوه في بركة ماء وتركوه، فإن استطاع أن ينجو عرفوا أنهم كسبوا فارساً جديداً وإن هلك اطمأنوا على تخلصهم من كائن ضعيف غير قادر على حماية نفسه وإنقاذها. هكذا بنتْ إسبارطة مجدها وغطرسة قوّتها على التضحية بأطفال أبرياء في امتحانات بدائية فيها من الوحشية بقدر ما فيها من تقاليد وثنية، إضافة إلى تكريس روحها العسكرية باعتبارها ثكنة كبيرة ممتدة الأطراف.
أنظر الآن إلى انسحاب أميركا من العراق بوصفه استعادة لهذا التقليد الإسبارطيّ العريق، فمنذ 2003 وإلى اليوم كانت الحكومات العراقية المتعاقبة تتعايش مع أزماتٍ تتناسل باضطراد، كلّ واحدة منها كافية لإسقاط حكومات قويّة، لكنّ الأمور ظلتْ على حالها، لا الأزمات أسقطتْ النظام ولا الحكومة استطاعتْ أن تعمل بجدّ لإنهاء الأزمات، كأنما النظام وأزماته كانا يتخادمان طوال هذه الفترة، إذ أن جزءاً كبيراً من شرعية هذه الحكومة يمكن أن يعبّر عنه بشرعية الأزمة، مشاكل العراق الجمّة جعلتْ من الحكومة ورأسها بلا بدائل فعلية، ولذا كان وارداً أن يصرّح رئيس الجمهورية مثلاً أنْ لا بديل للمالكي إلا المالكيّ.مع الانسحاب الأميركيّ دقتْ ساعة الحقيقة. لا بدّ لهذه السيولة السياسية  من أن تنتهي، والكلمة الفصل ستكون إما لنظام حكمٍ يتربص بشركائه قدر ما يتربصون هم به، وإما لبدائل لم تزلْ غائمة وغير واضحة المعالم بعدُ، فيها خيارات أهونها انتخابات مبكرة، وأقساها احتراب طائفيّ.جرّب الأميركان حلّاً استقوه من أسلافهم الرومان، تركوا الوليد الذكر في بركته ووقفوا بعيداً يراقبون: هل سينجو فيصلح بذلك أن يكون مشروع فارسٍ في إمبراطوريتهم الثكنة الكبيرة، أم انه سيغرق غير مأسوف عليه؟يبدو أن السيّد المالكي أدرك هذه الإستراتيجية الأميركية، فعمد ـ بعد لقائه أوباما مباشرة ـ إلى استعراض قوته، فتح عدة معارك في آن واحد وعلى جبهات مختلفة، معطياً إياهم رسالة واضحة مؤداها أنه سينجو. جزء من مفردات هذه الرسالة تجدها في الاحتفالات الرسمية بيوم خروج الأميركان الذي تعددتْ أسماؤه فهو يوم الوفاء ويوم الاستقلال ويوم الجلاء ويوم السيادة، لكنه في العمق يوم امتحان المالكي وحكومته، يوم إسبارطيّ بامتياز.طفلنا الإسبارطيّ العراقيّ ما زال في بركة الماء، الماء عميق، والولد يظهر نشاطاً وصبراً عجيبين يدفع بيديه ورجليه غرقاً  وشيكاً، وهو يعلم أن بانتظاره حشداً كبيراً من الشامتين والمتشفين، لكنه ـ ربما لأنه إسبارطيّ ـ يريد أن يعطي علامات على قوته بافتعال أزمات وخصومات ومعارك جانبية، كأنه يريد القول لمن يقف على بركة الماء: أنا لا أجهد للبقاء حياً وحسب، بل أستطيع أن أتخلص من أعدائي وأنا في هذه البركة العميقة.إسبارطة تنتظر فارسها .. والطفل ينتظر نهاية اختباره. ونحن نتفرج.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram