هل هنالك بديل أكثر فعالية من الثواب والعقاب في سبيل تغيير سلوك البشر إلى الأفضل؟ وهل توجد وسيلة أجدى نفعاً منه في يد المسؤول والمصلح والمربي والمعلم؟ وعدم تطبيق هذا المبدأ في الحياة العمليّة يؤدي لا محالة إلى التسيّب ويُضر حتما بالمصلحة العامة. أمّا تطبيقه بالعكس؛ بحيث تنقلب المعايير فيُثاب المسيئون ويعاقب المحسنون فتلك مرحلة متقدّمة من التسيّب المنطوي على الظلم وعدم الإنصاف مما سيتضاعف معه الضرر.
موظف الإنقاذ الذي يتقاضى أجراً لكي ينقذ الغرقى يصبح من مقتضيات عمله أن يقوم بذلك، فلا يجوز أن يُثاب إذا أنقذ غريقاً ولكن يجب أن يعاقب إذا قصّر في ذلك، على نقيض من تطوّع بالقفز إلى البحر لينقذ غريقاً لا تربطه به علاقة ودون أن يكون ذلك من صميم عمله. فالأخير يستحق الثناء والمثوبة على كل حال سواء أصاب أم لم يُصب، فإن لم يُصب ومات الغريق فإنه يؤجر مرة وإن أصاب فأنقذ حياته يؤجر مرتين.
إن عبارة (لا شكر على واجب) التي نكررها كثيراً والتي تبدو بسيطة في ظاهرها، أجدها عميقة المعنى وإن كانت في معظم الأحيان عديمة الأثر. إنها تحمل في طيّاتها فلسفة سلوك ومنهاج حياة وأساس تربية. من يقول هذه العبارة وهو يعنيها، يعبّر في الحقيقة عن رسوخ الإحساس بالحق والعدل والإنصاف في وجدانه.
إن الوظائف العامة تحتمها الأعمال المطلوبة والواجبات المنوطة، ولولا الحاجة إلى الواجبات لما جُعلت الوظيفة، ولولا الوظيفة لما توفرت فرص الكسب. إذاً؛ الحرص على أداء العمل هو من باب المحافظة على مصدر الرزق.
إذا ضربنا مثلاً بالمؤسسات العلاجية، نجد أنها قائمة في الأساس على علاج المرضى، إذاً لولا أن الناس يمرضون لما قامت تلك المؤسسات، ولما توفرت فرص العمل للأطباء والممرضين والفنيين وعمّال النظافة وغيرهم ممن ينتسبون إليها. وعليه فإن وجود المرضى هو السبب في خلق مصدر رزق كل هؤلاء. إذاً عليهم جميعاً أن يسهروا على خدمة المرضى كُلّ في ما يخصّه. كما أن عليهم إدراك أن واجباتهم تقتضي ذلك وأن الإخلال قد يعرّضهم إلى فقدان وظائفهم وبالتالي مصدر رزقهم ولا يُلام في ذلك أحد إلاّ أنفسهم.
إن الواجب المنوط بالطبيب مثلاً هو فحص المريض وتشخيص العلّة ووصف العلاج، وسواء في المؤسسة العامة أم الخاصة لا يقوم بذلك مجاناً. صحيح أن قواعد الأدب وحسن السلوك تستوحي التفوّه بعبارات الشكر المتداولة، ولكن بشرط أن يدرك الأطراف أن ذلك من مقتضيات المجاملة المعتادة واللياقة العامة وليس لتأكيد منّة أو الاعتراف بفضل. من غير الضروري تخصيص الشكر والثناء والإشادة إذا أدّى عمل الطبيب إلى شفاء المريض، ولكنه يجب أن يحاسب إذا لم يتّبع الأصول الطبيّة الثابتة والمستقرة والمتعارف إليها، ويكون مسؤولاً إذا لحق بالمريض ضرر نتيجة لذلك. في السياق ذاته لا أجد ضرورة لمكافأة موظف يؤدي عمله، بل يجب أن يحاسب إن قصّر في ذلك أو تعمّد تعطيل مصالح الناس. كما لا ينبغي تخصيص الجزاء للقاضي الذي يُصدر أحكامه على المجرمين، فإنه لا داعيَ لمكافأة الشرطي الذي يقبض عليهم، فجميعهم لا يقومون بذلك تطوّعاً، بل في مقابل أجرٍ مجزٍ تتحملّه الدولة أو دافعو الضرائب. وفي المقابل يجب أن يقع تحت طائلة المراقبة والمحاسبة كل من يستغل سلطته لمصلحته أو يهمل في أداء واجبه.
إن تمييز بعض العاملين عن غيرهم بتقديم الشكر والثناء إليهم، بسبب أداء واجباتهم الوظيفية، أراه بمثابة اعتراف ضمني بأن الأجور المقررة هي حق مكتسب للجميع، سواء الذين يعملون منهم فعلاً أم الذين يقتصر عملهم على التواجد في مكان العمل.
كما أرى أن ذلك يُوغر صدور القلّة الآخرين، الذين يؤدون واجباتهم في صمت دون توقع جزاء خلاف أجورهم المفروضة. تدريجيّاً سينضم هؤلاء القلّة من المخلصين إلى فيلق الكثرة، من الذين لا يعرفون من العمل إلاّ قراءة الصحيفة اليوميّة واستهلاك أباريق الشاي والقهوة والثرثرة في الهواتف، وبدلاً من أن يكون التمييز مدعاة لرفع الروح المعنويّة للعاملين، فإنه سيأتي بنتائج عكسيّة، عندما يُخرج غيظ القلوب ويبعث المرارة في نفوس الجنود المجهولين، الذين لا ذنب لهم سوى عدم براعتهم في أساليب تسويق المهارات أو بصراحة أكثر لا يجيدون فن التزلف والتملق فسقطوا سهواً أو أسقطوا قصداً من قائمة النخبة.
المجاملة على حساب الواجب الرسمي
[post-views]
نشر في: 14 أكتوبر, 2012: 04:57 م