هاشم العقابياستنكر علي صاحبي اهتمامي بمجالس عزاء زيارة الأربعين، متصورا ان مثل هذه الطقوس يجب ان تكون خارج اهتمامي، كوني علمانيا كما يصفني. وهذا خطأ يقع فيه كثيرون منا. فالطقوس الروحية مهما كانت جذورها الدينية أو المذهبية، لا تخضع لدائرة مقاييس العلمانية أو التدين. فهي وان كانت، ذات اصل ديني، قد تلبي لدى غير المتدين حاجات نفسية اكثر مما تلبيها عند المتدين احيانا.
وفي العراق وجد العراقيون، منذ ايام سومر، في الحزن ملاذا للتخفيف عن أحزانهم. لذا تجده يجذب حتى غير المسلم له، لانه يرتبط في اللاشعورين الفردي والجمعي العراقيين بخيط يبدو اننا توارثناه.أنا شخصيا احتفظ بمكتبة صوتية تضم عشرات الكاسيتات من الموروث الحسيني من بينها لطميات لحمزة الصغير وفاضل الرادود والشيخ وطن وعبد الرضا النجفي وياسين الرميثي وغيرهم. كذلك احتفظ باشرطة نادرة بصوت الشيخ أحمد الوائلي، بعضها سجلتها له بنفسي. اعود لهذه الاشرطة كلما شدني الحنين للعراق ولايام صباي فيه. وغالبا ما الجأ لسماعها حين تشتد بي الكآبة أو يلم بي الحزن. كانت ابنتي الكبرى تردد باستمرار حين تجدني مشدودا لسماع تلك الأشرطة: "هذا بابا شكد يحب الحزن". لا ادعي ان حبي للحزن، أو بالاحرى لكل ما يثير الحزن، صفة خاصة بي. فالعراقيون قد ادمنوه من ايام المهد حين كانت امهاتهم تغذيهم نواعي "الدلول" مع حليبها. وكانت امي قبل ابنتي تدرك شدة حبي لصوتها الحزين حتى صرت اجيد اداء النواعي التي اضمنها في الكثير من قصائدي. وحينما عدت للعراق بعد السقوط بأشهر قليلة لم تنس امي ما يحبه ابنها. فبينما كنت انعم بغفوة عميقة في ظهر احد تلك الأيام التي عشتها في عراق بعد صدام، استيقظت على صوت الوالدة الشجي واذا بها تحيطني بدائرة جمعتها هي واخواتي وبعض من قريباتي يشاطرنها النواعي. كانت نواعيهن كقالب ثلج نزل على صدري. حاولت ان احبس الدمع حتى لا اجبرهن على السكوت بدافع الخوف علي، لكني انتحبت فارتحت اكثر.رويت قصة والدتي لصاحبي المستغرب من شدة انصاتي للنواعي واللطميات الاربعينية فاستغرب اكثر لانه مقتنع بان البكاء يزيد الحزين حزنا. اخبرته بان اعتماد البكاء وسيلة لابعاد الحزن ليس بدعة بل ان هناك نوعا من العلاج النفسي للكآبة يسمى "العلاج بالبكاء" crying therapy مثلما هناك علاج بالضحك وباللعب وبالقراءة، وناوشته دراسة علمية بهذا الشأن طمعا في ان يغير قناعته.ظل صاحبي منشغلا بقراءة الدراسة، وعدت انا لمتابعة صوت لطمية قديمة استعملتها احدى الفضائيات خلفية لتغطية مسيرات السائرين نحو تعزية الامام الحسين. كانت ملامح الارتياح واضحة على وجوه الباكين والباكيات في كربلاء. راحة نفسية لا يعرف طعمها غير العراقيين.
سلاما ياعراق : استمتعوا بأحزانكم
نشر في: 15 يناير, 2012: 07:18 م