حكمت البخاتي(1-2)1.اللغة الدارجة وعجر الفكر والمعرفة:إن أحد أسباب عدم قدرتنا على التفكير الثقافي – المعرفي هو سعة المسافة الفارقة بين لغة هذه الثقافة وهي لغة فصحى على صعيد المقروء وشبيه الفصحى على الصعيد المسموع وبين لغة التفكير السائدة عندنا
وهي اللغة الدارجة وبالتالي فإن الفهم أو التأويل الذي نتواصل به مع النص المقروء يكون خاضعا ً الى ازدواجية ثقافية بين لغتين متناقضتين على مستوى الإزاحة أي كل منهما يحاول إزاحة الأخرى والاستيلاء على عملية الفهم والتأويل دون إشراك رئيسي للغة الأخرى وإنما مجرد استعانة ذرائعية بها. ولعل من صور التناقض هو إطلاق الفصحى على الدارجة إسم والعامية بما يحمله من معيارية تنسبها الفصحى لنفسها وتنظر من خلالها الى الدارجة بازدرائية تكشف عن محاولات الفصحى الذاتية في الهيمنة على مقاليد التفكير وتنظيم المعرفة لدينا وينتج عنها ازدراء الفكر الذي يمارس نشاطه الذهني والمعرفي بهذه اللغة غير المكتوبة أو ما يعبر عنه بالفكر الشعبي في قبال نخبوية مصطنعة تمارسها الفصحى ومحاولات الهيمنة لديها التي واجهت ردة فعل عنيفة من قبل دعاة الدارجة وقد تضمنت دعواتهم اتجاهات حداثوية متطرفة مالت الى العنف الرمزي والنبذ القسري تجاه اللغة الفصحى...لكن اللغة الفصحى هي جِلد الذات العربية التي لا يمكن انتزاعها منه وهي التي حفظت الهوية العربية وعنصر الثقافة في القومية وقد جمعت تعدد المناشئ والميول والرغبات في وحدة في المشترك الثقافي أو اللفظي. التي أظهرتها وأوضحتها اللغة الدارجة بشكل يهدد هذا المشترك بالحق الأثني وحقوق المكون الوطني. وهي بذلك تؤثر على المنحى المعرفي – العام الذي يبادر اليه المشترك الثقافي – العربي المفترض ويجعل من موضوعاته هما ً ثقافيا ً مشتركا ً وقد أورث هذا التشظي عقما ً في التواصل الثقافي العربي والعجز عن تكوين رؤية عربية – ثقافية واحدة في المجال المعرفي وتجاه المتغير السياسي في العالم والمنطقة. إضافة الى عقم هذه ِ اللغة الدارجة الذاتي عن الإبداع والتذكير وتناول الرأي المعرفي أو الحل السياسي.ان اللغة التي استدرجت الفكر العربي بعد غياب الفصحى الكلي وصاغت آليات تفكيره التقليدي وألفاظه ومفرداته لغة غير مكتوبة أو لعلها غير قابلة للكتابة ما يعاظم من خطورة العقم فيها ويفسر ذلك كذلك انتماؤها الى فكر وثقافة صنعتها مراحل من التخلف والتدهور الحضاري والثقافي في بلادنا فاشتبكت فيها الألفاظ والمفردات المعبأة بمعان ٍ مترسبة عن فكر وثقافة انقطعت أواصر التواصل لها في العالم الحديث وانتهى فكر هذه الثقافة بكليته الى العالم القديم ما جعلها منظومة فكر قديم.وأفضل مثال على ذلك مفردات وأفكار الأمثال الشعبية وهي تنتمي إلى منظومة اللغة الدارجة فهي في أكثر معانيها تؤمن بالتواكل واليأس والإحباط وتعبر عن فقدان الأمل في حياة أشبعتها التباسات القهر والاستلاب، إن نظرة متفحصة في صيغ هذه ِ الأمثال وصياغاتها الفكرية تكشف عن هذه الفواعل الاجتماعية في العالم القديم وترمز في استلاب الإرادة إلى هدر حقوق الإنسان وانكفاء عالم الإنسان في الواجب دون الحقوق أو هو عالم اللا حرية وفيه انتظمت علاقات اجتماعية اتسمت باللاتكافؤ وبالانقسام ثم التفاوت الاجتماعي الطبقي الحاد.وقد سعت اللغة الدارجة الى التعبير عن هذا اللاتكافؤ والتفاوت وما ينتج عنه من تراجع تجاه الحقوق في أمثال وحكايات استغرقت الوجدان الشعبي وصارت ترسم أمامه تصاميم حياة ممكنة وبسهولة على ضوء حكمة شعبية أسست لها ذاكرة شعبية ولغة عامية وأنتجتها سلطة المستغِل وخضوع المستغَل وهي علاقات تشابكت بالمعنى المتولد عن ألفاظ تفصح عن بصمات عذابات الاستغلال وافتقاد الاستقلال.وقد تضمنت اللغة الدارجة مفردات وألفاظاً مهمة في الاستعمال اليومي ودخولها في النسق القرابي بما تحمله من دلالات توحي بشكوى مريرة وعذابات ضمير وجدت لها في تلك الألفاظ منفذاً ومتنفسا ً تعبر فيه عن المكتوم والمكنون من الحزن وآلام القهر لا سيما حين تنتهي تلك المفردات بحرف (الهاء) المعبر بكثافة عما يثقل الصدور مثل مفردة (خويه) و (بويه) و (يمه) وفي مقاربة نسقية لغوية فإن (الهاء) من نسق مفردة (آه) تلك المفردة التي طالما ترددت في غناء الجنوب العراقي وحشرجات صدور أبنائه وهناك نوع من الشعر الشعبي ينتهي بقفل (الواو والياء والهاء) وهي بموازاة نسق (آه) الحزين والكئيب في النفس العراقية وهو شعر (الأبوذية) وقد سمي بهذا الاسم لتعبيره عن أذى النفس العراقية.إن اللغة الدارجة بهذا الاستعداد في الانضمام إلى الفكر وتحديد هويته المعرفية والاجتماعية تسهم إلى حد كبير في عملية الفهم وقدرة التأويل حتى وإن كانت اللغة المستخدمة في التعامل النصي هي الفصحى بسبب انقطاع جذور هذه اللغة – الفصحى – في الفكر المعاصر على مستوى الاندماج النفسي والذوق البلاغي المستأنس بقوة الى عملية هذا الاندماج ما يؤدي إلى انسداد قنوات الإبداع الممكنة والخصبة التي كفت عن الانتاج والابتكار بفعل تأرجح آليات الفكر وقواعد التفكير بين جذور لغة منقطعة – الفصحى –
تأمّلات في اللغة والفكر.. عجز الدارجة وانقطاع الفصحى...
نشر في: 5 أكتوبر, 2009: 06:25 م