فخري كريم
قرأت أمس المقالة التي كتبها السفير الأميركي السابق في العراق كريستوفر هيل، وقد وجدت فيها، رغم اختلاف رؤانا، باختلاف موقعينا في ضوء مصالح بلدينا،
وبحساسيتي السياسية من "تنطّع" الآخرين أياً كانت مرجعياتهم، في التدخل بشؤوننا، وتلبّس دور الولاية على بلادنا.. وجدت في تلك المقالة تقييماً لمّاحاً للمشهد السياسي العراقي وتعقيداته، وتوصيفاً مقارباً لما يعصف به هذا المشهد من اختلافات وتنوّعاتٍ دينية ومذهبية وطائفية وعشائرية وقومية.
وأستطيع القول إن مثل هذا التوصيف أو الاستنتاجات التي خرج بها المقال ظلت بعيدة (وربّما مخفيّة) عن التقديرات التي اعتمدتها القيادة الأميركية، سواء في ظل الاحتلال، أو في المرحلة اللاحقة. وقد يكون الأصح القول، إنها المرة الأولى التي تنشر فيها مثل هذه التقييمات التي تعكس فهماً وخبرةً مكتسبة نتيجة المعايشة وسط الحراك السياسي والاجتماعي الذي يغمر العراق ويطفو فوق مشهده المعقد، سياسياً وجغرافياً واجتماعياً.
لا أريد بهذا تزكية ما جاء في المقال ولا الركون إلى تحليلاته وما خرج به من استنتاجات، فهي تنطلق من ضرورة الاحتراز في اتخاذ مواقف تحمي المصالح القومية الأميركية، وتؤسس لسياسة في المحيط العربي والإقليمي المنذر بعواقب لا احد يدري بمدياتها ونتائجها، إذا لم يجرِ الأخذ بالاعتبار، المصالح الوطنية للقوى الفاعلة في المحيطين، وإذا اسقط من حسابه دور العناصر الكامنة في المشهد السياسي والتغيّرات العاصفة التي تتفاعل فيه. وقد فات السفير هيل الإشارة في معرض تحليله للنسيج الاجتماعي العراقي ومكوناته، وما ينطوي عليه من تشابك وتنافر وتناقضاتٍ، وعواقب عدم اخذ ذلك بالاعتبار في تحديد وجهة تطور العملية السياسية الديمقراطية، إنها تنطبق إلى حدٍ كبير، بوجه عام على الدول في المحيطين العربي والإقليمي، وخصوصاً منها الدول المفصلية، ذات المراكز القيادية في النفوذ والتأثير. وهذه الدول تدخل في خانة حلفاء الولايات المتحدة، وتستمد الكثير من نفوذها ودورها من دعم القيادة الأميركية واحتضانها.
لقد حاول السفير هيل بمقالته إبداء النصح العلني للإدارة الأميركية ووزارة الخارجية بوجه خاص، لعلها تعيد النظر وفقاً للمنظور الذي عكسه، في جوانب من سياستها ونهج ممثليها في العراق، ربما لأنه اطلع من بعيد على ما شاب هذه السياسة من عثراتٍ لم تكن في مصلحة الولايات المتحدة، كما أضعفت الثقة، ولو دون إعلانٍ، بصدقيتها عند اقرب المتعاملين معها، بل واقرب الداعمين لها في العراق .
إن مقالة كريستوفر هيل، تصلح لمقارنة التصورات التي وردت فيها مع السلوك الفج الذي أدار به السفير الأميركي الحالي وطاقمه وقيادة القوات الأميركية في العراق غرفة العمليات الأميركية بعد الانتخابات التشريعية والانتقال الى العمل لتشكيل الحكومة العراقية. ومثل هذه الإشارة لا تنفصل عمّا قام به السفير وطاقمه من تدخل يخرج عن ابسط الأعراف الدبلوماسية وعمّا ينبغي أن يكونوا عليه من سلوكٍ سياسي في دولة يُفترض أنها مستقلةٌ وسيدة "مع الإقرار بنقص هذه السيادة!" وإلا لِمَ بقيَ السفير حتى الآن متربعاً في سفارته؟
في هذا السياق يبدو مثيراً، صمت الإدارة الأميركية، بعد الفشل الذريع لسياستها تلك، وانتقالها إلى مواقف على الضد منها، دون التوقف ومراجعة الأسباب واتخاذ أي تدبير يوحي بأنها أدركت ما أُرتكب من خطأٍ كان من شأن إمراره، وضع العراق في أتون صراعٍ ضارٍ يصعب التكهن بنتائجه ووجهة تطوره .
وإذا كان ثمة تقييم لهذا الموقف من دولة عظمى متسيدةٍ، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، في لعبة الأمم المغلوبة على أمرها حتى حين، وفي إطار العولمة المتشظية بحكم أزماتها، فهو لا يخرج عن الانتباه لما يعوله سياسيونا من اعتمادٍ على "حكمة الكبار" وانسياقٍ خلف أوهامهم.
وفي لعبة الأمم، تضيع أحياناً المقاييس والأحجام، وتتبدى الأوهام كما لو أنها براهين وحقائق على قوة فوق قدرة "مداركنا المحدودة"!
السيد أوباما .. ألا ترى أن الاخفاقات المتوالية في سياستك الخارجية، وفي القلب منها ما حدث في العراق، تتطلب وقفةً "انتخابيةً" للمراجعة؟