TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > عـالَـم آخــر: عفاريت للساسة والجمهور

عـالَـم آخــر: عفاريت للساسة والجمهور

نشر في: 28 يناير, 2012: 10:25 م

 سرمد الطائيلم يسمع ابو العلاء المعري من يروي الشعر عن الملائكة لكنه نقل في رسائله أبياتا نسبت للجن والشياطين، وراح يسرد ما نسجه خيال العرب في هذا الباب. فلكل شاعر شيطان يقول الشعر على لسانه. وحين يلتحم بك "امير الجن" فإن كل فنون القول تتاح رغم صغر السن، كما يقول شاعر فتي غابر.
اما الاعشى فيحدثنا عن شيطانه بالتفاصيل بل ويطلق عليه اسم "مسحل" في قوله "دعوت خليلي مسحلا.." بل ان بعض شياطين الشعراء قد أقام في الموصل ويدعى ابو زاجية.ويروي المعري عن شياطين الشعراء ان اعمارهم تطول حتى ان بعضهم ادرك النبي نوح، ولذلك فإن الشاعر حين يموت يلتحم شيطانه بروح شاعر آخر، وهكذا بما يسد الفجوة بين عمره الطويل وأعمار الشعراء القصيرة، فشيطان النابغة الذبياني نفسه ركب امرؤ القيس سلطان كندة، فكان النبوغ مشتركا بينهما. وهكذا قد تنتقل الرقة والالتماعة الذكية بين الاصمعي وكاظم الحجاج، او الفخامة بين المتنبي والجواهري، وهلم جرا.وبينما كنت اطالع فجر السبت صحائف من رسائل المعري، وإذا بشيطاني يحل لي لغز نسخ الساسة التي تكاد تتكرر حرفيا في بلادنا، رغم اختلاف شديد بين عقائد الانظمة وايديولوجياتها، واصرارها جميعا على سوق العباد نحو مصير وضيع لا يليق بإمكانات هذا الوطن ولا بمؤهلاته.وهكذا رحت انسج على منوال المعري: وماذا يمنع ان يكون هناك عفريت لكل سياسي على غرار شياطين الشعراء؟ وكما ان شيطان الشعر يطول عمره حتى يحل في روح اكثر من شاعر، فلا نستغرب ان عفريت الساسة يلتحم في جسد عبد السلام عارف او بكر صدقي، ثم يعود فيحل في جسد هذا القائد العسكري أو السياسي، ولعل العفريت الذي سكن ساستنا خلال آخر 50 سنة هو واحد او مجموعة نماذج بأمزجة وقناعات متشابهة.وعفريتنا العراقي موهبته معروفة، وفي الحقيقة فإنه لا يمتلك اي موهبة سوى الكفر بالحرية وكره ألوان التمدن ومناصبة العداء للعالم المتقدم من حولنا، وافتعال الازمات مع الجيران وتصفية الخصوم دمويا. ان الاكفأ والأبقى بين ساستنا هو من كان عفريته الاقدر على سفك الدماء او اجتراح ما يوازيها في الخطورة.وكل العفاريت تتحدث عن مؤامرات تحاك ضد الامة، فقد امضينا نصف قرن ونحن ننهمك في تصديق مؤامرات تحدث عنها اليسار واليمين، ثم انتقلنا الى مرحلة لم يعد فيها يسار ولا يمين، بل ملوك طوائف يمضون لياليهم المضاءة بكل ما تمتلكه البلاد من ميغاواطات كهربائية، بتخيل المؤامرة تلو الاخرى، ومطالبة الوطن بنسيان كل اولوياته والتفرغ لردع المتآمرين.لقد مرت اعوامنا التسعة الماضية وكأنها دهر وحاولنا ان ننسى النموذج المعادي للتقدم، لكن العفاريت المتناسلة عبر عصور الاستبداد عادت لتحل في أرواح ساستنا وتملي عليهم نماذج ليست اقل عداء لروح العصر. كل من عارضهم متآمر، وعلى ارادة الفرد ان تتقيد بإرادة الزعيم فتلبس كما يشاء وتأكل وتشرب ما سمح به وتصمت وتتكلم وتشتهي طبقا لإرادته.آخر ما فعله عفريت زعيمنا هو قطع 4 شوارع رئيسة في العاصمة بسبب اجتماعه مع ممثلين للمجتمع القبلي يوم السبت. راح يخطب برجال القبائل دون ان يعبأ بكل الفوضى التي أخرت مصالح الناس خارج القاعة.وبينما كنت وبعض الزملاء نتذمر، اكتشفنا ان الجمهور لا يبالي كثيرا، فمثل سلفه الذي كان يمر بالشوارع نفسها قبل 30 عاما، ظل جمهورنا يسأل عن جدوى الاعتراض. وهنا تخشى ان تكون للجمهور نسخة مكررة من عفريت واحد ايضا، فالاستسلام يتناسل بين الاجيال على نحو غريب، في عصر لم يعد فيه ما يستحق ان تستسلم من اجله.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram