TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > الافتتاحية:المحور الطائفي العربي والإقليمي والصراع العراقي - العراقي

الافتتاحية:المحور الطائفي العربي والإقليمي والصراع العراقي - العراقي

نشر في: 30 يناير, 2012: 11:34 م

فخري كريم

ونحن نتناول هذا المفصل المهم الذي يبدو أنه آخذ بالتكرّس في الحياة  السياسية العربية والإقليمية، وأعني بذلك في العلاقات بين الدول وما يتشكل  من محاور واتجاهات متصارعة في ظل هذا التوجه الخطير..

لا بدّ من القول إن  هذا التصارع الذي يجري حينا تحت شعارات الدفاع عن الديمقراطية والحريات  وحقوق الأقليات والأكثـريات، وهي شعارات باتت بمجملها، في ضوء الاصطفافات  العربية والإقليمية المتنامية الآن لا صلة لها بالديمقراطية ولا بالحرص على  أقليات

 أو أكثـريات وإنما هي شعارات تستخدم من أجل أهداف ومصالح سياسية يريد البعض بها تحقيق هدفين في آن واحد: أولا إبعاد دولته عمّا يجري..

ثانيا استخدام هذا الذي يجري لتحقيق قوة نفوذ إقليمي ربما تأخر له تحقيقها بسبب قوة نفوذ الدكتاتوريات المتهاوية وما كانت تتبنّاه من شعارات خدعت بها ملايين العرب وسحبت بذلك ضمناً البساط من أنظمة أخرى ظلت تنتظر مثل هذه الفرصة التي يبدو لها أنها متاحة الآن.

في هذا التنازع الطاحن، لا بد من ثوابت.. إذا أردنا أن نتحدث عن حق أكثرية في بلد ما بالحكم وإدارة السلطة فإنه يجب القبول بذلك في كل الأماكن الأخرى.. وإلا كيف يمكن تبرير مهاجمة عملية سياسية في دولة جرى تصميم إدارة الحكم فيها بحيث تتمكن الأغلبية السكانية من إدارة البلد بينما تُهاجم دولة أخرى بحجة أنه لا بد لأكثريتها السكانية من التحكم والإدارة، هذا الازدواج في المعايير يخل بـ(اللعبة) التي يمكن أن تتكرر بأكثر من بلد، مع قناعتنا الواضحة بأن نضج الظروف السياسية وتطورها هو وحده الكفيل بتحقيق توازن حقيقي آخر يقوم على الأغلبية السياسية، وهي أغلبية تتضمن تمثيلا عادلا ومتكافئا للجميع، كما في كل الديمقراطيات المستقرة في العالم.. لكن الدول المتنازعة الآن لا علاقة لها بهذا النضج المنتظر ما دامت لا صلة لها بالديمقراطية ولا بحقوق مَن تطالب بحقوقهم.

الثابت الآخر.. أن ما يحدث من تصارع إقليمي وعربي باتت دول تسمح بموجبه لنفسها أن تتدخل وبشكل فاضح صارخ بأحداث وعلاقات وتفاهمات دولة أخرى.. وهو سلوك يخرج على أبسط معايير العلاقات بين الدول والشعوب، ويفتح الباب على مصراعيه أمام احتمالات خطيرة يكون معها كل محرم في تلك العلاقات مشروعا ومستساغاً، وهو حال يقرب من حال الحرب الإقليمية الطاحنة وإن كان يجري بأدوات داخلية.

مع هذا لندخل في التفاصيل، ولنبدأ من حالنا..

فمن الواضح أنه لن يتبرأ من الطائفية ومثالبها من يتصرف أو يريد أن يزكي سلوكه أو نهجه السياسي، أياً كانت الصيغة التي تتبدى فيها تلك الطائفية والمثالب، أو الأطر التي يتحرك في فضاءاتها. ولا احد يستطيع إنكار أن صيغة الحكم الراهن او الانتخابات التي جاءت به أو القانون الذي شرع نيابياً لإجرائه بريءٌ من الصبغة الطائفية. كما أن ما تمخض عن ذلك كان نتاجاً طائفياً بامتياز، توزعت آثاره في كل وزارات ومؤسسات ومرافق دولتنا التي لا يُراد لبنيانها أن يكتمل، لكي تظل نهباً للصوص المال العام والعابثين بمقدراتها.

وجرياً على هذه الحقيقة ورداً للشبهة أو الظن بالانحياز أو الممالأة، لابد من الإقرار بوضوح أن للجارة الشرقية إيران يداً طولى ودوراً بارزاً ومؤثراً في العراق.. وهي إذا لم تكن كذلك، وهو ما تقتضيه مصلحتها، فإنها ينبغي أن يقال عنها بأنها مصابة بعمى المصالح، أو أنها متنازلة عن هذا الدور لصالح من هو أكثر شأناً ونفوذاً منها، برغم قناعتنا التي ترى أن من مصلحة إيران وجود عراق ديمقراطي مستقر وغير معني بالتدخل في شؤون الآخرين، كما أن من قناعتنا أن تعمل إيران على مساعدة العراق من أجل الوصول الى مثل هذا الوضع الذي تكون فيه العلاقة مع ايران متوازنة ويدعم توازنها التقارب المذهبي والاجتماعي بين الشريحة الاجتماعية الأكبر في العراق وبين إيران.

من المتوقع كما قلنا أن تحدث التدخلات وتأمين المصالح، إذ أن أي دولة مهما صغر شأنها، ناهيك عن مساحتها، لن تتعفّف عن إيجاد موطئ قدم لها في البلدان الأخرى التي يتاح لها أن تجد موطئ قدم فيها، حتى وان كانت تفصل بينهما آلاف الكيلومترات.. ولنا في تجربة (الشقيقة قطر) خير مثال باتجاهين: فهي تحولت بين ليلة وضحاها إلى مركز كوني تدير مخابرات العالم كلها مصالحها في إقليمنا انطلاقا منها.. وهي أيضاً التي تحولت بفعل أموال غاز شعبها، إلى "إمبراطورية قطر العظمى"، تتحرك في كل الاتجاهات، كما لا تفعل الصين أو أي دولة عظمى أخرى.

ولست في وارد التعريض غير المبرر بقطر أو بأي جهة سياسية أو دولة شقيقة أو صديقة، لكنني أرى من الضروري التوقف عند ظاهرة التراشقات  "الطائفية" التي تجري ليل نهار "بين ملوك وأمراء" الطوائف عندنا بشقيهم الشيعي والسني، وتبادل الطعن بـ"عيب الطائفية" وجهالة المروجين لها، دون أن يتوقف "عاقلٌ" من بينهم، عند ظاهرة توزع الولاءات لدول راعيةٍ خارج الحدود تحتضن الانقسام الطائفي وتحرض عليه تحت واجهة الحرص على "وحدة العراق" أحياناً، ودفاعاً عن عروبته أحياناً أخرى، وتجنيباً له من الانزلاق إلى هاوية الحرب الأهلية الطائفية غالباً.

وبرغم مرور سنوات على هذا الحراك الطائفي، وتسكين حواضنه في دول الجوار، فان ظاهرة التداخل بين ما هو عراقي من تجاذبات وعربي وإقليميٌ من تدخلات اتخذت طابعاً مباشراً وعلنياً، حتى بات الرعاة من قادة الدول والمتنفذين فيها لا يتورعون عن إعلان تدخّلهم ودورهم في ترتيب "البيوت العراقية". لقد بات واضحاً التزامن بين تصاعد الأدوار الخارجية "الراعية" وتلبد الاجواء في البلاد وما يقتضيه من استنفار الأطراف المتصارعة واستعدادها بالرعاة، طلباً للحماية، أو تحسين شروط التفاوض، كما لو أن أولئك الرعاة أولو البيت وسدنته. وفي كل هذه الأحوال تُدفع المخاوف على الطائفة إلى الصدارة، لا فرق بين حامٍ للأكثرية أو ذائدٍ عن الأقلية المغلوبة على أمرها، وذلك لا يعدو أكثر من كونه تبريراً لتسويق الطوائف المقصيّةِ بشطريها وتوظيف "قضيتها" التي لا عنوان سياسيا لها في جباية المزيد من الأموال من الدول المتطوعة "المنزهة" عن الغرض في النيل من سيادة العراق ومصالحه، أو ثلم كرامة الجباة الذين ظلوا على عادات أيام المعارضة ومصائبها.

إن إيراد مثال قطر يُراد منه، ألفات النظر إلى ظاهرة خطيرة أخرى اتضحت معالمها بشكل خاص، خلال تطورات الربيع العربي. وهذه ظاهرة تنطوي على تناقضٍ والتباس، تنعكس في الطبيعة السياسية لهذه الدولة "المَشيَخيّة" ومعركة "الديمقراطية" التي تخوضها في بلدان الربيع العربي، وتلعب فيها أدواراً قيادية ويتصرف شيوخها بدور الوصاية والأبوة، ولا تتردد في إعلان انحيازها العلني إلى حركاتٍ بعينها، أصولية المنشأ وذات عقيدة سلفية وطائفية حتى النخاع.. إن قطر التي تقود قوميا معركة الديمقراطية وتريد نتائج هذه الديمقراطية لصالح سلفيين عتاة يحتقرون الديمقراطية والديمقراطيين، قطر هذه ما زالت تحكم بالتوارث، ويتحكم في مقاليدها، شيوخها غير المنتخبين، الذين " يتوارثون الحكم بالتداول " بإرادة تكاد تكون غيبية " مستورة بتعويذة القرضاوي، وأحياناً عبر انقلابات الأبناء على الآباء، والأخوة وابناء العمومة على الأشقاء.

ولو انتهى الأمر عند ظاهرة تدخلها في وجهة ومسار ما يجري في دول الربيع العربي لعزونا ذلك إلى الجانب الآخر من غياب الحركة الشعبية الديمقراطية، والفراغ السياسي المنظم الذي يسمح بمثل هذا التدخل.. لكن قطر وشبيهاتها من الدول التي لا تدعي هي نفسها أنها تعتمد النظام الديمقراطي في إدارة شؤون دولها، تقوم بادوارٍ تتناقض مع مسلماتها السياسية في الحكم، عندما يتعلق الأمر بشأن خاصٍ بالعراق على سبيل المثال لا الحصر، ويمس الصراع بين ممثلي الطوائف، إذ تظهر كما لو أنها فوق الشبهات الطائفية.!

ان خارطة الواقع العربي والإقليمي، كما هو جليٌ، مفروشٌ بالاستقطاب الطائفي، وهو مُرشحٌ لتفاقم هذه الظاهرة وتحولها إلى مصدرٍ جديد للتوتر والمجابهات. وهذا الواقع انعكس منذ إسقاط النظام السابق وما يزال بشكل سلبي على العراق واستقراره والحراك السياسي وعلاقات القوى المشاركة في العملية السياسية واطر الحكم القائم فيه. وقد وجد هذا الانعكاس صورته البارزة في رفض النظام الجديد، لا بسبب قصوره الديمقراطي، أو التشوّهات التي شابت تطبيقاته، سواء لجهة الانفراد في السلطة أو التضييق على هذا الطرف أو ذاك أو لنقص في الخدمات يعاني بسببها الشعب الأمَرّين، أو حتى لشأن ذي صلةٍ بنهب موارد الدولة والامتيازات التي ينعم بها قادة الدولة والمحسوبون عليها، بل إن هذا الرفض من قبل الأطراف الإقليمية والعربية ذات الانتماء الطائفي المعروف، محسوبٌ عليها لأنها ترفض صيغة النظام القائم بسبب طابعه المبني على الأكثرية السكانية من حيث الأساس، مهما اتخذت من إجراءات لتصحيح المسار الديمقراطي في البلاد وأياً كانت الوجوه التي تتناوب على إدارة الحكم من بين هذه الأكثرية السكانية، حتى "تنضج ظروف" اعتماد قاعدة الأغلبية السياسية المبنية على قاعدة المواطنة الحرة والبرنامج السياسي. إن هذا الرفض الطائفي، إنما بني على انحيازٍ طائفيٍ سافر، دون الأخذ بالاعتبار إرادة المواطنين وخياراتهم في تحديد وجهة تطور بلادهم. 

وقد فعلت قطر ودولٌ أخرى منذ التحولات التي شهدها العراق، الكثيرَ، إن على مستوى التدابير السياسية المُعيقة أو من خلال تعبئة قوى من لون معين ومدها بكل أسباب التمكّن، سعياً منها لإحداث فوضى قد تنجح من خلالها تلك القوى في تغيير وجهة تطور البلاد.

إن مواصلة هذا النهج الذي لا يمكن توصيفه بغير الطائفي لا يدفع إلا إلى مزيد من الاستقطاب الطائفي، ويؤدي في نهاية المطاف إلى خياراتٍ لا تصب في مصلحة العراق ووحدته ولا في مصلحة الدول اللاهثة لإجراء تغييرٍ فيه على الضد من مصلحة العراقيين بكل ألوان طيفهم ومكوناتهم الوطنية، بل إن هذا النهج المغامر من شأنه أن يعيق أي إجراء حقيقي آخر يسعى لأن يضع حداً للمحاصصة الطائفية وينقل التجربة إلى مشارف ديمقراطيةٍ ترسي أسس دولة الحريات والقانون والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وتصفّي كل المظاهر المخلة التي تتعارض معها، وقد يدفع ذلك النهج الطائفة المستهدفة إلى خيار الدفاع عن نفسها عبر الاصطفاف الخارجي.

المحور الطائفي العربي والإقليمي، واقعٌ ينحو باتجاهاتٍ تضع العالم العربي والإقليمي في مواجهة إشكاليات لا تصب في مصلحة الشعوب العربية التي تتميز بالتنوع وتعدّد الهويات الدينية والمذهبية والعرقية والقومية والعشائرية والمناطقية والجهوية. وكلما نأت المكونات العراقية بنفسها عن الاتكاء على الخارج في معالجة خلافاتها، ساعدت، مهما كانت الصعوبات والمعاناة، على تجنيب العراق الانزلاق إلى منحدر الصراعات التي يمكن أن تعلو على المشهد السياسي القادم في المنطقة، ذلك المشهد الذي يريد وضع القضية العراقية بيدقاً على طاولات اللاعبين الإقليميين والعرب، وهو خيارٌ سيلحق أفدح الأضرار بالمصالح الوطنية العراقية العليا وبمصالح أطراف العملية السياسية، دون تمييزٍ بين ممثلي هذه الطائفة أو المكون وغيرها.

إن التلويح بالخطر الإيراني وتوسع نفوذه ودوره في العراق، يصطدم ويتبرر ويتسوّغ بالنسبة لمؤيديه بالاستنفار المقابل الذي يحرض من حيث يريد أو لا يعي على الاستقطاب والانحياز. كما أن من الضروري لفهم أعمق لهذه القضية هو الفصل بين التجانس الديني المذهبي والولاء السياسي.

إن الهاجس الأكبر في هذا العناد السياسي هو من قبل الدول العربية التي ترفض الاعتراف بواقع الحال القائم في العراق، وتأسيساً على ذلك تعزل نفسها عمّا يجري فيه وتحول دون إقامة علاقاتٍ دبلوماسية متكافئة معه.

إن العراق ليس إقطاعاً تحت تصرف الحكومة أو رئيسها أو أي طرف سياسي، بل وطن العراقيين بكل مشاربهم ومكوناتهم، ومن هذا المنطلق ينبغي التعامل معه واحترام إرادة شعبه وسيادته واستقلاله وخيار تطوره.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram