كريم عبدلا أعتقد إن هناك شعباً تعرّضَ وما يزال لعملية تشويه سمعة تاريخية كالشعب العراقي. فالعراق المعاصر تميز بثورات وانتفاضات شعبه خلال القرن العشرين، هذا الشعب الذي عُرف برفض الاحتلال والتدخل الأجنبي وعدم قدرته على احتمال الظلم طويلاً على عكس العديد من الشعوب العربية التي ظلّت مستسلمة لحكّامها المستبدين،
وكنا نسمع من يتهم العراقيين بالإدمان على العنف على عكس الشعوب العربية الأخرى التي توصف بكونها مسالمة!! بينما الواقع يقول إنها مستسلمة وخاضعة لحكوماتها المستبدّة وغير الشرعية وليست مسالمة، وهناك فرق كبير بين المسالمة والاستسلام طبعاً.rnولكن حين ثارت بعض هذه الشعوب مؤخراً ضد طغاتها مطالبةً بالحرية والكرامة وجدنا، ونقولها بحزن شديد، كيف ارتفعت وتيرة الرعب والتقتيل الرهيب في تلك البلدان، ولا تزال المآسي في بعضها تتصاعد ومعدلات القتل ترتفع بدرجات مرعبة حقاً، ولكن هذا هو ثمن الحرية وطريق الكرامة: الكفاح والتضحية وليس تبرير الاستسلام بذريعة المسالمة!! ورغم أن تضحيات العراقيين غالباً ما تذهب هدراً إذ سرعان ما يستولي على ثمارها الانتهازيون والعملاء لكنهم لا يتركون الطغاة والفاسدين يُسعدون بسلطتهم وامتيازاتهم.rn"العراقين"وإذا عدنا لعراق القرن الأول الهجري، حيث كان يسمى العراقين، أي البصرة والكوفة، إذ شهدت هاتان المدينتان العظيمتان أحداث التاريخ العربي الكبرى آنذاك، بكل ما انطوى عليه من صراعات وفتن وحروب ومآسٍ وخيانات وخلافات وانتصارات ومعانٍ إنسانية كبرى هي حصيلة هذه الدراما التاريخية الطويلة والقاسية. واستطراداً فمن الكوفة والبصرة انطلقت الفتوحات الإسلامية الكبرى وتأسّست مدارس الفقه واللغة والعلوم والآداب، وفي الكوفة التي اتخذها الإمام علي عاصمة لحكمه تأسّس التشيع الذي دفع ثمنه العراقيون غالياً. التشيع الذي كان يعني التزام العدالة التي جاء بها الإسلام وليس اللطم والتطبير والمبالغات البائسة الشائعة الآن.والكوفة هي مدينة القراء والعلماء المؤسسين والزهاد والمُتّقين وفيها نشأ وترسخ التصوف كظاهرة روحية وثقافية استثنائية في تاريخ البشرية.. كل هذا وغيره الكثير حدث في كوفة العراقيين الأفذاذ حيث يرى بعض المؤرخين وكبار المستشرقين بأن تاريخ العراق في القرن الأول الهجري هو تاريخ العرب.ومن كتاب الدكتور كامل مصطفى الشيبي المهم (الصلة بين التشيع والتصوف) ما زلت أتذكر المعنى العام لعبارته (لم تضح جماعة من أجل قائدها كما ضحى العراقيون من أجل علي بن أبي طالب) لكن المسلسلات الإيرانية التي انهالت علينا بعد 2003 والتي في غالبيتها تناولت التاريخ الإسلامي بطريقة هابطة فنياً ومضمونياً وكأن هدفها الأساسي هو شتم العراقيين وتشويه سمعتهم، ولا نعرف حقاً كيف تسمح تلك الفضائيات (العراقية) ببثها، ومن هو المسؤول عن هذا الإسفاف العنصري وكيف يتم تبريره ؟ تختصر العبارة الآتية من مسلسل إيراني ما أشرنا إليه "العراقيون يتلونون ويخادعون، هل ينسى التاريخ خيانتهم الإمام علي ونجليه"! إذ تنطوي هذه العبارة، التي تتكرر في كافة المسلسلات الإيرانية التاريخية بتعابير مختلفة، على اتهام العراقيين بالجملة في الماضي والحاضر والمستقبل، وليس فيها أي مجال للمراجعة أو الاستئناف! وهذا دليل على عنصرية رخيصة وحقد دفين على عرب العراق الذين فتحوا بلاد فارس وأسقطوا إمبراطورية الأكاسرة مؤسسين لانتشار حضارة الإسلام. وإذا عدنا للوقائع التاريخية نجدها تقول عكس ما تدعيه المسلسلات الإيرانية العنصرية، فلو كان العراقيون هكذا لما بقي الإمام علي يوماً واحداً بينهم، وإلا من قاتل واستشهد مع الإمام في معارك الجمل وصفين والنهروان وغيرها ؟ أليسوا أهل العراق؟في كتابه المهم جداً (الفتنة – دار الطليعة) عالج المفكّر والمؤرخ التونسي حقبة القرن الأول الهجري بروح موضوعية وعقل شجاع ما يجعل كتابه ضرورياً لكل من يريد الاطلاع على حقائق الصراع ومواقف الأطراف المختلفة منها. وهو ضمناً يدافع عن تضحيات العراقيين ومواقفهم الشجاعة إلى جانب الإمام علي استناداً لأهم المصادر التاريخية، وعن الأيام الأخيرة التي سبقت استشهاد الإمام وفي الصفحة336 يقول هشام جعيط ".. مع كل هؤلاء القوم –يقصد قوات بصرية- سينوي أمير المؤمنين من جديد تعبئة عامة للرجال في العراق، وفي الكوفة في المقام الأول، في سبيل هجوم واسع على معاوية وأهل الشام. جرى في حياته على الأقل وضع الأسس لمشروع كهذا، أي إنشاء قوة ضاربة متجددة، تقودها نخبة محاربة مخلصة ومصمِّمة. والمقصود بذلك شرطة الخميس التي تحدّثنا عنها المصادر وتعني حرفياً نخبة الجيش التي كان يُفترض فيها أن تُشكّل قوّة قيس بن سعد: 12 ألف رجل يجرّون وراءهم بقيّة الأربعين ألف مقاتل كوفي. وهنا يقع الاعتداء القاتل الذي سيكلف عليّاً حياته، لا في جو من الميوعة والانهيار، بل في جو من تعبئة الطاقات والتجمّع واليقظة، وبعد جهد طويل من إعادة البناء، ومع تصميم حقيقي لدى علي ومحيطه الجديد وقسم من مقاتلة الكوفة على الانتقال مجدّداً إلى الهجوم. من المهم التشديد على ذلك لكي نلاحظ إنه من الخطأ تأريخياً القول أو التفكير بأن اغتيال علي كان النهاية المحتومة لسلطة مفككة..&
سمعة العراقيين بين حقائق التاريخ والمسلسلات الإيرانية!
نشر في: 31 يناير, 2012: 07:39 م