مشرق عباس لا جدال في حقيقة أن العراق يتعرض اليوم إلى اختبار مصيري، لا تسمح بديهيات السياسة ومجسات التاريخ بمحاولة التخفيف من مخاطره أو اعتباره "مشكلة عابرة لا ترقى إلى الأزمة" لكن تلك البديهيات والمجسات لا تسمح أيضا بمنطق يختصر كارثة بلد يتحرك على حافة الهاوية في رجل اسمه نوري المالكي مهما اتفقنا أو اختلفنا على مساحة الأخطاء التي صاحبت تجربته الحكومية.أحد مبادئ إدارة الأزمة وضع حدودها وخياراتها، وهي في التجربة العراقية اليوم تتعلق بمستويين يتعلق احدهما بخلل في صميم الاتفاق الاجتماعي والسياسي
على إدارة الدولة يفتح باب التأويل والتداخل في مشروع الحكم بين "حق المكون" و "حق المواطنة"، وثانيهما يخص آليات الحكم ومفرداته الدستورية والقانونية وتوزيع السلطات والصلاحيات والإمكانات والثروات.وليس من باب المصادفة إذا اتفقنا على المستويين السابقين للأزمة أن نتفق بالضرورة على أن أسبابها وحلولها لا تتعلق بشخص واحد أو حزب واحد مهما كان سقف الاتهامات العراقية – العراقية مرتفعاً، وأن ثمة مسؤولية تضامنية كانت وستبقى التوصيف الوحيد المتاح أمام فهم ما جرى وما يمكن أن يجري.من سوء الأقدار العراقية أن المحنة التي وصلت إليها البلاد اليوم لا تتسع إلى أحلامنا العريضة عن وطن مواطنة للجميع يسير بإرادة ذاتية بصرف النظر عن السكك والمسارات والتوصيفات التي ندرك منذ سنوات أنها لا تنفذ إلا إلى الأنفاق المعتمة.فالدستور العراقي الذي سنّ العام 2005 يضع العراقيين أمام رؤية مبدئية لدولة مواطنة بصرف النظر عن الاعتراضات في التفاصيل والنواقص والتشريعات الملحقة، لكن أمزجة الجمهور التي اختبرت في انتخابات 2006 و 2010 وتختبر في الأزمة المشتعلة اليوم تكشف بلسان أكثر صراحة عن ملامح "دولة مكونات" تجد هي الأخرى منافذ دستورية لها.متوقع أن تهرب النخب السياسية والثقافية وحتى الشعبية العراقية إلى أمام فتتغاضى مجدداً عن البحث في أصل تعريف الدولة، لكن ذلك الهروب لن يعفيها طويلاً على أية حال من الاختيار بين مفهومي "دولة المكونات" أو "دولة المواطنة" ليتسنى تحديد آليات الحكم دستورياً وعرفياً بعد الاختيار وليس قبله.وبعيداً عن اللغة العاطفية فإن تكريس تلك النخب مفهوم "حق المكون" في أدبياتها وسياساتها وسلوكها، ومن ثم التمسك بمفهوم "المواطنة" الدستوري شكلاً، سيحمل الجيل السياسي العراقي الحالي بمختلف تمثيلاته المسؤولية التاريخية لتقسيم العراق في ظل بيئة إقليمية ودولية متاحة ومشجعة على تعميق الشروخ الاجتماعية. وحيث أن لدولة المكونات أصولاً وقواعد وتوافقات وآليات ديمقراطية تحمي الأقليات المذهبية والعرقية عندما تمنح الأكثرية حق الحكم، فإن لدولة المواطنة قواعد حكم وآليات ديمقراطية مختلفة، ومن غير المجدي محاولة الدمج بين المفهومين للخروج بحكم هجين على غرار القبول بالفيدرالية شريطة أن تكون "جغرافية" في بلد تقود انتخاباته وقواعد حكمه وثقافة أحزابه ومحاصصاته إلى تمثيل مكوناتي مذهبي وعرقي صريح، أو أن ترفع أحزابه شعار "المواطنة" وتشهر بطاقات المحاصصة والتقسيم، أو أن تسعى مدنه التي تمتلك الثروات الطبيعية إلى الاستئثار بها أو التلويح بحرمان الآخرين منها.وتالياً، فإن المسؤولية التضامنية تلك تنسحب جدياً على مفردات ممارسة الحكم في العراق والتي قادت إلى حالة الافتراق السياسي التي نشهدها بين طرفين يمثلان شئنا أم أبينا مكونين اجتماعيين يتأثران بمخرجات ونتائج ذلك الافتراق ويؤثران فيه عبر معادلة تفاعلية شديدة التعقيد.ما يثير التساؤل إصرار القوى السياسية العراقية على تقزيم أزمة إدارة الحكم الحالية عبر إلقائها على مصطلح "إرادة المالكي" أو "إرادة دولة القانون" المتداول سراً وعلنا، في ظل تأكيد عام على أن آليات الحكم الغامضة والمتداخلة في ظل نصوص قانونية ودستورية شديدة التأويل سمحت للمالكي بالقول إن الدستور منحه "حقوقاً" وإن خصومه يطعنون بالدستور حين يسعون إلى تقويض هذه الحقوق، فيما أن تلك الآليات نفسها سمحت لمعارضي المالكي باتهامه بتجاوز الدستور والمضي نحو الاستبداد.وبالاستناد إلى مفهوم "دولة المواطنة" المزعوم فإن على قوى مثل "العراقية" و"المجلس الأعلى" و"التحالف الكردستاني" و"الصدريين" التي تحتل النسبة الأكبر من مقاعد الحكومة والبرلمان أن تجيب مجتمعة على تساؤلات محيرة مثل:- ما الذي يمنعها عن إقرار نظام داخلي لحكومة تعمل من دون نظام داخلي منذ عام، وما الذي يجبرها على الرضوخ لهذا الواقع؟- ما الذي يمنعها عن تشريع القوانين الخاصة بتنظيم عمل السلطات الأمنية والعسكرية؟- ما الذي يعرقل إعلاناتها الرسمية بشأن دعم توسيع صلاحيات المحافظات أو تحقيق العدالة في توزيع الثروات من خلال تشريعات واضحة تنزع الأزمة المشتعلة بين حكومة بغداد والحكومات المحلية؟- ما الذي يعيقها في نطاق المسؤولية التضامنية عن تطبيق برنامج الحكومة المعلن وملاحقة تطبيق هذا البرنامج ومساءلة رئيس الحكومة ووزرائه عن خلل التطبيق؟- ما الذي يكبل يديها عن ملاحقة الفساد عبر آليات برلمانية رصينة وتحقيقات واستجوابات تتيح معرفة مصير المليارات العراقية المبددة.من السهل أن نستمع إلى سياسيين يشتكون من أن المالكي "يمنع" و"
اجتماع الصقور وتأجيل المؤجّل
نشر في: 1 فبراير, 2012: 08:58 م