سرمد الطائيالعراق غير محظوظ مع أهم جيرانه، برغم أنه يجاور أحلى شعبين، الإيراني والسوري. وتعالوا نقلب بعض التفاصيل. فخلال ساعات الانتظار الطويلة في عيادات الأطباء الذين ترددت عليهم الشهر الماضي، كنت أتسلى بمقال طويل كتبه محمد حسنين هيكل عن سوريا حافظ الأسد.
ان المضمون الذي قد تختلف معه يأسرك بأسلوب الصحفي العجوز الساحر في رواية الحكايات عن "الشام الكبرى" التي يسميها "ارض الوحشة التاريخية" بين مصر والعراق، ايام انقسام الخلافة بين عباسيي بغداد وفاطميي القاهرة. لقد تركت دمشق يومئذ عالقة لا هي لهذا ولا هي لذاك، فأمضت قرونا من "الوحشة" وعدم حسم الخيارات، لم يضع حدا لها حتى فخامة سلاطين آل عثمان.اما كاتب لبناني من طراز حازم صاغية فينهمك في كتاب أعده عن بعث سوريا، على عجالة ولكن بحميمية نادرة خففت "وحشتي" امام غرفة العمليات، فينهمك كثيرا في البحث عن صلة عميقة تربط السوريين بالحكاية العراقية، وكيف تأثر بعثيو سوريا قبل ان يكونوا بعثيين بالطبع، بحركة رشيد عالي الكيلاني وانقلاب ايار (مايس) 1941 في العراق وميوله القومية المستلهمة لهتلر."ارض الوحشة" التي فقدت صلتها ببغداد العباسيين ولم تقم آصرة مستقرة بقاهرة الفاطميين، انتجت انبعاثا قوميا يتأثر بضباط العراق وينتهي في معطف اسرة علوية. الاسد العلوي جاء على انقاض مشروع وحدة لم تتم مع مصر، ومواجهة متعبة مع اسرائيل، فحسم التردد وتحالف مع ايران، والنتيجة ان سلسلة معاركه اوقفت النهضة البشرية والفكرية الهائلة التي افتتح بها الشام عصر النهضة العربي في القرن 19. وبدل ان تستمر سوريا بإنتاج افكار الاصلاح، خضع شعبها الى واحد من اقسى الانظمة يؤبد حقائق السياسية ويمنع التحولات التي يمور بها الجوار.اما إيران حليفة دمشق، فلها وحشة اخرى. فالأمة الايرانية الخليطة المثابرة التي تعيش في كنف تاريخ آري قادم من الشمال البعيد، وجدت نفسها بين ليلة وضحاها، تتحول من مركز دولي وثيق الصلة بالغرب المتقدم، الى بلد معزول تحكمه ايديولوجيا متشددة. ايران الاكثر تحضرا وتمدنا في المنطقة وجدت نفسها تسير بسرعة خاطفة نحو سلفية قل نظيرها، اوقفت آمال الاصلاح التي بدأت قبل النهضة العثمانية، عبر ابطال ثورة المشروطة حين جاء "منور الفكرها" اي المثقفون، من فرنسا حاملين لواء الاصلاح السياسي.قصة هذين البلدين اللصيقين بالعراق تاريخا وسياسة وثقافة، رهنت اجمل شعبين في المنطقة بانسداد سياسي رهيب راح يضاعف ازمات الشرق الاوسط بأسرها وازمة العراق بنحو خاص. الخلاف معهما استدرجنا الى حرب طاحنة ثم غزو للكويت تلاه غزو للعراق نفسه. اما "الوفاق القسري" الذي يعيشه العراق مع نظامي سوريا وايران اليوم، فبإمكانه ان يستدرجنا نحن كذلك الى وحشة من نوع خاص ومواجهة مع كل العالم المتقدم.ان شعب سوريا وشعب ايران، يمضيان اصعب فصول وحشتهما هذه الايام. وبقاؤهما في هذه "الوحشة" والعزلة السياسية، سيعني تأجيل الاستقرار في العراق عشرة اعوام اخرى، لأن احفاد "بوزرغمهر" وحلفاءهم العلويين، سيظلون يتصارعون مع اولاد قصي بن كلاب وامراء الجزيرة العربية، على شاطئ الفرات في معركة بلا نهاية.اتابع اخبار مضيق هرمز وبوابات دمشق بقلق. احلم ان تحسم هذه الامم خياراتها، وتمتلك جرأة ان تخوض تجربة التغيير وتتخلص من طوق الوحشة الذي يضربه المرشد خامنئي وفريق بشار الاسد على احلى شعبين في الشرق الاوسط، بما فيها من ضرائب دم ومغامرات واحتمالات تستعصي على الحساب. احلم ان يتسع معسكر التعددية السياسية والا يبقى العراق ولبنان وحدهما، مقرين لتعددية تخترقها انظمة الاستبداد السياسي في طهران ودمشق. احلم ان يعود السوريون والايرانيون كما كانوا في القرن التاسع عشر، كاسرين لطوق الوحشة، رائدين في رسم معالم النهضة.. يحظيان بفرصة ان يخوضا تجربة التعددية السياسية، فهما أحق بها من كل الشعوب الاخرى.
عـالَـم آخــر: سوريا وإيران.. "أرض الوحشة"
نشر في: 1 فبراير, 2012: 10:20 م