هاشم تايهمنذ شهور والرّسّام البصريّ صلاح مهدي جبر يواصل العمل في مشروع فني ستكون إحدى نتائجه تحويل أحد المقاهي إلى معرض دائم للأعمال الفنية، أو إلى ما يشبه غاليري تفتقر إليه مدينته، اليوم، على الرغم من ثرائها النفطيّ والإبداعي، فآخر غاليري تمّ إعدامه مع حملة إعدام السينمات في البصرة،
كان غاليري جمعية الفنانين التشكيليين الذي تألّق نحو سنتين فضاءً للفن المعاصر والثقافة الحيّة ثمّ احتجب كما احتجبت الفضاءات الجميلة في الماضي الذي نعيشه اليوم، وندعوه، حاضراً..وبالإعداميْن الشنيعيْن، إعدام الغاليريات وإعدام السينمات خسرت المدينةُ مرضعاتِ الخيال، وأمّهات الصور التي تُعدّ علامة عصرنا الفارقة، هذا العصر الذي تجتاحه الصور، وتسجّل وقائعه، وتغيّر أحواله بإيقاع سريع يجرف كلّ شيء..rn(1) وجهrnوفي مقهى الأدباء المزروع في زقاق قديم في الموقع الأشدّ حياة وصخباً بمركز المدينة، العشار، وحيث يستقرّ، بلا طمأنينة، آخرُ فضاءٍ للمزاج الخارج على حدود الصرامة المتجهّمة التي تضبط البصرة اليوم، وتمسك بخناقها، في هذا المقهى لم يفقد الرسّام صلاح، الذي عاش في هذه البلاد الشقيّة ستين عاماً وبضعة أعوام، حماسه وهو يواصل تزيين الجدران الداخلية بالصور الشخصيّة لمبدعي مدينته، أدباء وفنانين، التي رسمها على الورق بألوان مائيّة ثمّ غطّاها بزجاج مؤطّر.. وحتى هذه اللحظة ما يزال صلاح على موجة مبادرته يرسم احتفاءه الملوّن بأصدقائه موسّعاً مساحة معرضه الدائم في مقهاه، مستمتعاً بما ينجزه من صور، غير عابئ بتعليقاتٍ محبطة تطال مهاراته، ولا مكترث لمن يتجاهل مشروعه، ويستكثر عليه حتى الكلمة الداعمة التي تشجعه على المضيّ أبعد في هذا المشروع. وبين يوم ويوم أمسينا نرى صلاحاً يدخل المقهى متأبّطاً أديباً أو فناناً في صورة رسمها له، وسرعان ما يركب كرسيّاً، ويدق مسماراً على جدار، ويعلّق الوجه الذي أشقى نهاره، أو ليله وهو يكافح من أجل إحيائه على الورق بالماء الملوّن العجيب.أحلم جداً بأن يمنح دولةُ رئيس وزراء القدر صلاحاً ستين عاماً جديداً، ليصير بوسعه أن يملأ جدران المقهى بصور مبدعيه المحبوبين، ثم يخرج إلى جدران مباني مدينته، هو وأحفاده الذين أتوّقع لهم أن يكونوا مثله رسّامين، ليغطوها بصور أفذاذ البصرة منذ ترعرعت على شطّها الجميل.. صور علمائها، ولغوييها، وأدبائها، وفنانيها، وظرفائها، وصعاليكها، ومجانينها... صور باهرة لرموز ثقافة وإبداع نفاخر بها بدلاً من صور متجهّمة لأوغاد سياسة خرقاء مغامرة، وفكر منقوع بخل متعفن، طالما رأيناها بعيوننا الباصقات! (2) خلفيّةrnتشكّلت، مطلع ستينات القرن الماضي، في البصرة، ملامح مشهد تشكيلي من تجارب عدد من الفنانين التشكيليين البصريين الذين درسوا الفن في معهد الفنون الجميلة ببغداد وعادوا إلى البصرة، وشرعوا يعرضون أعمالهم في معارض جماعية أو شخصيّة، وأسّس عدد منهم، على غرار ما جرى في بغداد، جماعات فنيّة، أصدرت، خلال عمرها القصير، بيانات تأسيس رافقت معارضها. ولم تكن تجارب أولئك التشكيليين، وقتذاك، تبتعد كثيراً، في الرؤية والأسلوب، عن التيارات الفنية التي حفل بها المشهد التشكيلي في بغداد الذي خضع لسطوة ثلاث رؤى مثلها ثلاثة فنانين عراقيين روّاد هم فائق حسن، وجواد سليم، ومحمود صبري، ثمّ شرع ينطلق متخففاً من هذه السطوة يدفعه مزاج فني ستيني نازع إلى المغايرة والتجريب، متحوّلاً، يوماً بعد آخر، عن لغة بصَريّة تكاد تكون وسيلة فعل خارجي، إلى لغة بصَريّة تحتفي بفعلها الجماليّ الخاص وأهوائه، وكان مبكّراً بالنسبة لتلك اللغة، تلك السنوات المشحونة بالصراعات، أن تقطع، أو تتجاهل، ما يصلها بمرجعيات وتمثلات كان لها هيمنتها في الوعي آنذاك.وكان التشكيل في البصرة، خلال تلك السنوات، هو الآخر، جزءاً من ثقافةٍ مدنيةٍ ناهضة مأخوذة بما تصنع، ومعنية بأن تجد تعبيرها الجمالي في فنون شتى من بينها التشكيل، وهي تتحرّك للتعريف بنفسها متناغمة مع تطلعات عامّة تُجهد ذواتاتها لتلتحق بالعصر في جوّ من الصراع لم تعدم آثارَهُ جوانبُ الحياة. وفي حين كان المشهد التشكيلي في بغداد يجد، على الدوام، ما يؤمّن له فرص الاتساع والرواج بحكم توفره على بنية تحتية أسّستها الدولة أوّلاً وتجّار الفن ثانياً، وتنال تجارب فنانيه ما يدعم نزوعها إلى إشهار ما لديها والتنافس مع غيرها والانتشار في حيّز الواقع، وفي فضاء الإعلام، كان التشكيل البصري لا يجد، في حدود محيط المدينة ما يؤمّن له استعراض تجاربه إلاّ داخل فضاءات محدودة جداً. ولهذا تتابعت، خلال عقود القرن الماضي، هجرات التشكيليين البصريين إلى بغداد بذرائع كثيرة أهمها الدراسة في معاهد الفن، والرغبة في إشهار التجربة الفنيّة في محيط يكفل العمل والتنافس والانتشار والاحتكاك بتجارب الآخرين، وكلّ ما يدعم الحاجة الداخلية الطبيعيّة إلى التطور والصعود وإعلاء الذات… وكلّما تضاءلت فرص التشكيلي البصري في الارتقاء بمشروعه داخل مدينته وجد نفسه مضطراً إلى الانتقال به إلى بيئة توفّر له متطلبات رواج منتجه الفنيّ في سوق مستقرّة تهيّئ أسباب العيش بوساطة الفن…وبتأثير هذه العوامل ظلّ المشهد التشكيليّ في البصرة يترنّح ويفقد ديناميته
غاليـري حيث لا غاليري
نشر في: 3 فبراير, 2012: 07:09 م