احمد المهناعدا الوطن، عشت في خمسة بلدان. وعدا المنزل الأول، فقد تنقلت بين 26 بيتا. وأتذكر أن صديقا في الشام رأى دلال بيوت كنا نتعامل معه وهو يأكل في مطعم، فقال له: اضرب كله من فلوس أبو زيد! وكان ذلك الآكل قد قبض من داعيكم المأكول "دلالية" أربعة منازل على الأقل. عافيات على قلبك "أبو فواز".
ورحمة الله عليك اذا كان الرحيم قد تذكرك.وفي كل بلد وكل بيت تشكل لي عالم، وقامت لي ذاكرة. والشعور بالدين يكتنفني تجاه كل من هذه الأماكن من دون استثناء، بما فيها البائسة. وكنت وما أزال اجد -أو أتخيل- الجمال حاضرا مع البؤس، بطريقة أو أخرى. فالخيال أمضى تأثيرا في بعض الأحيان من الواقع. الخيال يجعل الحياة أكثر احتمالا. والناس لا تسعد بالقصص والسينما لأنها تعيد إنتاج حياتها فقط، بل لأنها أيضا تضيف الى حياتها. إن الخيال هو بطل مهمة مضاعفة الحياة. ولولاه لكان إبداع العجائب احتكارا لأمّنا الطبيعة. ولعل مدة حياة الانسان "الحقيقية" لا تقاس بالزمن وانما بقوة او ضعف خياله. ومن كان زاده من الخيال فقيرا فقد عاش ومات فقيرا. فلا تحسبن الذي أنفق حياته في الأوهام قد ضيع عمره، بل ضاعف عمره. وكانت ايامي في الشام، ومدتها عامان ونصف مطلع الثمانينيات، أكثر أيام منفاي بؤسا من الناحية المادية، ولكن أكثرها سعادة من الناحية المعنوية. ولا أحسب أن السبب الوحيد لذلك يعود الى مخيلة "تجبر خاطر" الماديات الكسيرة بالمعنويات العالية. نعم الخيال على عيني وراسي، ولكن كان ثمة عوامل أخرى لتلك المفارقة، بينها جمال خصت به الشام اختصاصا يهز الأفئدة، ثم عمري الأصغر من الآن -أو ما يعرف بالشباب أدامه الله عليكم.ان تغيير الأمكنة يستتبع بدوره تغييرا في الأعمال أو الوظائف. وقد زاد نصيبي منها عن ضعف عدد البلدان التي تنقلت بينها. وكما هو الحال مع الأمكنة، فقد حملت رقبتي دينا ووفاء لكل عمل مارسته أو مؤسسة اشتغلت فيها. وإليها جميعا أحن، حتى دخت، وخفت ان لا أعدل في توزيع الحنين بينها. ولتجنب ارتكابي مثل هذا الظلم، صرت، بعد السلام عليها جميعا، أناغيها بهذه الكلمات الساحرات: "أنا عندي حنين ما بعرف لمين".وعدا المنفى ذي الأسباب الواضحة، فان وراء كل هذا التغيير أسبابا ظاهرة، وأخرى خفية لم أتعب نفسي في التحقق من ماهيتها، وجلاء حقيقتها. وكنت كلما أشرع في محاولة معرفتها او تفسيرها، سرعان ما استغني عن المحاولة، في استسلام قدري محبب: مشيناها خطى كتبت علينا ومن كتبت عليه خطى مشاهاولعل حظ "أحاديثي الشفوية"، التي مازال اصدقاء مقربون يتذكرونها، أفضل من حظي. فهي تنقلت فقط بين بلدين، وثلاثة منابر، رابعها "المدى" هذه المرة. وأرجو ألاّ يكون الحبل على الجرار.ووسط مسرات هذه الهجولة وأوجاعها، لم أنس للحظة أنها فروع من أصل واحد، وسبب أول، وذلك هو الإضطرار، في ظرف مؤلم ما، الى الهجرة من الوطن. الوطن الذي لكم أشعر تجاهه بالدين، لأنه لم يهجرني مرة، وظل بذلك يسقي ظمأي اللامحدود الى الاستقرار.
أحاديث شفوية :بالمنـاسـبـة!
نشر في: 3 فبراير, 2012: 11:08 م