ناصر الحجاجمن ذا الذي يمكنه أن يبرهن أن للعراق اليوم دستوراً عادلاً، دستورا واضح المعالم، بل أن للعراق دستوراً أصلاً. إن كان ثمة دستور فإنه أبعد ما يكون عن أن يكون دستوراً. أتعلمون ما مهمة الدستور الأولى؟ مهمته أن يحدد هوية الدولة من خلال رسم ملامح النظم التي تسير على نهجها مؤسسات الشعب في تلك الدولة عامّها وخاصّها.
كان لصدام حسين "نظام". وطيلة السنوات التي وقفنا فيها ضد "نظام صدام" الذي قتل شعبنا وأذله غاية الإذلال، ودمر طاقته وموارده، كنت أفكر أنني عندما أعود للعراق سأبدأ بإنشاء محميتي الخاصة على الأرض التي ورثتها عن والدي عن جدي منذ مئات السنين شمال البصرة، في القرنة، على الفرات العظيم إذ يلتقي بدجلة. محميتي التي أسميتها "مشروع القرية السومرية" وعملت طيلة ذلك الوقت على التخطيط الهادئ لإنشائها. هي أحد أحلامي العظيمة في البصرة التي أنجبتني لأعيد لها بعضاً مما وهبتني. قرية سومرية يلبس أهلها ملابسهم المحلية الأصيلة، يزرعون فيها الشلب والحنطة والشعير والذرة البيضاء.. يستنبطون النخيل بكل أصنافه، يدجنون الأفراس والأبقار والجاموس والدجاج والبط، يصطادون السمك بالفالة والشِباك، ويطحنون بذورهم بالرحى المرمرية ويرشونها بالجاون، ثم تبدأ النساء بإشعال التنور الطيني من الكرَب والغرَب ويُعددن الخبز والسياح والطابك، وهناك من ينتظر غداء سمك البني والكطان منهمكاً في صناعة المسامير أوالمناجل أو الكواريك (مهود الأطفال) أو في طلي مشاحيفه وطراريده بالقار. ثمة آخرون يصنعون الحصران من نباتات الهور من الجولان والطاري، أو يفتلون الحبال من القنب أو الكتان، ما أخصب هذه الأرض، إنها كوثا ربّا (أرض الرب الخصبة). آخرون يسفون الخوص سلالا وحصرانا ملونة، ونسوة هناك يغزلن الصوف عباءات أو يحكن ثياب أطفالهن الشتوية. وفي المساء يعود الآباء والفتيان من رحلة صيد طيور الحر والهربان والبيوضي والبرهان والصلندة والرخيوي ودجاج الماء "بلحم طير مما يشتهون" طعام أهل جنة عدن. لم يبق من خطة إنشاء "القرية السومرية" إلا أن أعد العدة لإنجازها وتهيئة ظروف استقبال السياح من كل دول العالم بكتيب يذكر تاريخ المنطقة وحضاراتها وطرائق عيش شعوبها المتتالية، فلابد من مرافق ترفيهية وخدمية تستقبل السياح، تهيئ لهم ثيابهم المصنوعة من منسوجات هذه الأرض، وتهيئ لهم صرايفهم ومضايفهم المضفورة أخصاصها من قصب الهور وحبال ليف النخل. لا بد من أدلة سياحيين يعرفون استخدام المشحوف ودفعه بالمردي. لا بد من نساء نبطيات يعرفن الطحن بالرحى والرقش بالجاون والخبر بالتنور وغزل الصوف وفتل الحبال وسف خوص النخل سلالا وخصاصيف ومهاف تبرد حر لهيب الصيف. لم يحل دون تنفيذ هذه القرية السومرية أمن مفقود، ولم يؤخر إنجازها تمويل، ولم يعق البدء بها إلا شيء واحد. لقد أبلغنا أحد الأجانب بأن شركته للتنقيب عن النفط تريد وضع يدها على أرضي وأرض أجدادي. تريد إحدى شركات النفط الخاصة سرقة حلمي إذاً..، تدميره، والقضاء على آخر ما تبقى من سومر، وآخر ما يحلم به السومري الأخير. أريد محميتي، ولن أسمح للغرباء بوضع يدهم عليها ما حييت. أريد من الدولة العراقية التي سرقت دماء إخوتي الذين ضحوا من أجلها فوضعت دماءهم على علمها لونا أحمر، ألا تسرق خضرة أرضي لتصبغ علمها باللون الأخضر. فلتعاملني دولتي "الديمقراطية" كما عاملت أميركا هنودها الحمر. سمتهم أصحاب الأرض الأصليين "Native American" وتعاملت معهم بمعاهدة تشبه معاهدات الولايات المتحدة مع الدول الأجنبية. خصصت لهم أراضي "محميات" مثل محمية "وند ريفر" في "ويّومنك" لا يحق للآخرين استخدامها. أما مساحة محمية "نافاجو" وحدها فتزيد على 56000 كلم مربع وهي أكبر من مساحة تسع ولايات هي ميريلاند فيرمونت نيوهامشر ماساشوتست نيو جيرسي هاواي كونكتيكت ديلاور ورود آيلند. ودولتي بدستورها الذي ما يزال هشا، وبقوانين الثروات الطبيعية التي ما تزال تراوح أمام طاولات من شغلوا كراسي البرلمان، تريد اليوم أن تسلبني ما ورثه أبي وأنا من جدنا من أرض زرعناها بالنخيل الذي أهملته الدولة وحالت سياساتها دون أن نرعاه ونحن في منفانا. تريد شركات نفط خاصة، تتعامل بطرق غريبة، أن تضع يدها على أرضنا التي ورثناها قبل أن يقرر الإنكليز إنشاء بلد يسمى ميسوبوتاميا في وثائقهم ويسلمون سلطته الاسمية لرجل من خارج هذه الأرض. نريد أرضنا بما فيها من ثروات.. لا نريد لأفراد فاسدين جاءت بهم نُظم فاسدة أن يعاملونا كالعبيد يفرضون علينا بقوة السلاح إرادتهم اللاقانونية. مرة يستخدمون الدين لإخضاعنا.. وثانية يسلمون أمر البلاد لشركات خاصة بحجة أننا بلد رأسمالي، وثالثة يأخذون ما استودعه الله في أرضنا بحجة أننا بلد اشتراكي. دعوا السومري الأخير يحقق حلمه في إنشاء محميته!
السومري الأخير ومحميات الهنود الحمر
نشر في: 7 فبراير, 2012: 08:15 م