احمد المهنا انحسرت موجة البرد عن بغداد، وعاد اليها شتاء هين. كانون الثاني، أو يناير على رأي البعض، جاء هذه المرة باردا بردا قارسا على خلاف الأعوام الماضية. وقد ذكرنا بأعوام بعيدة كان المناخ فيها يسير حسب الأصول: بارد ممطر شتاء حار جاف صيفا.
ولقد حافظ الصيف على جفافه، لكن الشتاء خف برده، كما شح مطره حتى صار يزورنا في السنة مرة. أما هذا العام فقد جاء الشتاء جادا. وأصيبت حركة الناس بالجمود، وامتلأت البيوت برائحة النفط، طلبا لدفء لا يأتي الا في السرير. وكان الله في عون المصدورين، الحساسين من تلك الرائحة.والبرد دون حماية شأن الحر دون حماية: كلاهما يصيب قدرات الناس على التفكير والعمل في مقتل. انه يجعلهم في صراع بدائي مع الطبيعة، همهم فيه ان يتدفأوا في البرد، أو يتبردوا في الحر، حتى لا يعود لأي شيء آخر قيمة: وهذه الحالة، يا قوم، هي التهديد الأعظم ل" الأمن القومي"، لأنها احدى بوابات الفساد التام. دول العالم تجاوزت مثل هذا الصراع، بفعل تمديدات الغاز والكهرباء. وبمساعدة هذه الأشياء يمكنك تجنب القيظ، ونسيان القر. انها أشياء أنهت هذا النوع من الصراع مع الطبيعة، ومنحت البشر فرصة العمل والتفكير من دون هذه الضغوط البدائية. وفي وقت ما كان العراق في عداد مثل هذه الدول. ويومها كان لشتائنا مقومات أجمل مشتى في العالم. والفضل في ذلك لا يعود فقط الى قوة الكهرباء يومذاك، وانما أيضا الى قوة الشمس: تجلس في مطعم بحديقة الزوراء، جدرانه من زجاج، وأنت دفيان، وتتطلع الى الأشجار والزهور، وقد كشفت الشمس عن كل مفاتنها. ويصدف ان تكون الشمس شارقة والمطر يهطل، فتنبعث من حولك نداءات الجمال، حتى لتحار الى أين تعطي وجهك، والى اي نداء تستجيب.وتتحدث القصص عن ان بعض شيوخ الجنوب في العهد الملكي، تنبهوا الى سحر الشمس الشارقة مع المطر، فابتنوا غرفا زجاجية في حدائقهم، للتمتع بذلك المشهد. وبشيء من الخيال البسيط، المنسجم مع نظرة ذات جدوى اقتصادية، كان في الإمكان توسيع ذلك المشهد على مدى البلاد، ليشكل مركز جذب سياحي عالمي.ولكن عقلنا كان مشغولا بقضايا أهم، وأكثر جدية، مثل الحروب مع الداني والقاصي. والنتيجة هي العودة الى " أحضان الطبيعة"، دون حماية من قرها ولا قيظها.ومازال انشغال الساسة جاريا في القضايا الأهم، والأكثر جدية، وإن اختلف مضمونها، إلا انها من نفس النوع البعيد عن أولويات خلق الله " التافهة" مثل التدفئة والتبريد. فمولداتهم الكبرى تنسيهم السفاسف، وتضعهم في مواجهة القضايا الكبرى، شأن نزاعات السلطة والثروة، وصراع العجم والروم، والقمة العربية، وهكذا. أما الناس فأخذت تتجنب الكلام في الكهرباء، كما يتجنبون المرض والوجع.وفي أثناء " الموجة" كنت مرة مع أصدقاء نتجول في شارع 62، حيث المولدات الكبيرة معروضة على أنواعها، وتقرب الصديق قيس عجرش من أحداها، وأخذ يتمعن في تكوينها، ويتطلع في قوامها، ويتلمس بعض أنحائها، ولسان حاله يقول" سبحان ربي السواج". ولكن ربما تراجع شغفه بها اليوم، ولو الى حين، لأن الله رحم، وانحسرت موجة البرد عن بغداد!
أحاديث شفوية:سفاسف التدفئة والتبريد
نشر في: 7 فبراير, 2012: 11:14 م