لندن/ عدنان حسين أحمد لا يحتاج بعض الأفلام الوثائقية إلى بحثٍ طويلٍ ومعمّق في الموضوع الذي يريد أن يتعاطى معه المخرج، خصوصاً إذا كانت الفكرة الرئيسة مُرتجَلة كما هو الحال في فيلم (كلكامش والكواكب الثلاثة) لمحمد توفيق. فلقد جاء المخرج إلى لندن مدججاً بكاميرته فقط من دون أية فكرة طارئة
في ذهنه عن الفيلم الذي يروم إنجازه. وكل الذي فعله هو أنه وضع في ذهنه ثلاث شخصيات عراقية معروفة وهم الفنان التشكيلي فيصل لعيبي، والشاعر فاضل السلطاني، وعازف العود أحمد مختار. وقبل أن يقدح المخرج محمد توفيق شرارة الفكرة أخرج فيصل لعيبي كتابه الفني الصادر حديثاً وعدداً من كاتولوغات معارضه الفنية السابقة التي قد تحفِّزهم على اختيار ثيمة ما يتفقون عليها جميعاً وما إن فتح الكتاب الفني الضخم حتى لاحت لنا صورة كلكامش، والثور السماوي، وما إلى ذلك من شخصيات أول ملحمة في التاريخ البشري. ترك لهم المخرج أمر اختيار الفكرة الرئيسة شرط أن تأخذ اتجاهاً واحداً، ولا تتشظى باتجاهات متعددة. اعترض فيصل ممازحاً على السير باتجاه واحد، لأنه يريد أن يختلف مع أقرانه، وربما يمشي بالاتجاه المعاكس، كما اعترض أحمد على جملة (لكم كل الحرية) التي لم نألفها من قبل، طالما أن النظام العربي يقدم هذه الحرية بالقطّارة وعلى جرعات صغيرة. ذهب المخرج أبعد من ذلك حينما منحهم حرية الحركة في منزل المخرج فاروق داوود الذي صوِّر فيه الفيلم، خصوصاً وأن معالم القلق الإبداعي كانت مرتسمة على الشاعر فاضل السلطاني الذي يبحث في قرارة نفسه عن مناخ خاص للحظته الإبداعية، وربما لا تأتي القصيدة في حضرة أناس آخرين وأمام عين الكاميرا التي لا يفلت منها أي شيء. لذلك خاطبهم المخرج جميعاً بأن يتحركوا بالطريقة التي تناسبهم، وليس هناك أية محددات، فالكاميرا تستطيع أن تتحرك وترصد الأشخاص الثلاثة من دون أية إشكالات، كما منح الشاعر فاضل السلطاني امتيازاً آخر بأن يلج إلى الغرفة ويختلي مع نفسه كي يستدرج القصيدة من مكمنها الغامض، ثم التفت إلى فيصل وخيّره بين أن يضع ورقة الرسم على الأرض أو على (الستاند)، وكل الذي طلبه في نهاية الأمر هو التلقائية في العمل والأداء لكي يمسك بالمصادفة الفنية طالما أنه لم يبحث في موضوعه، ولم يتهيأ له من قبل. الكل يعتقد أن الشاعر ربما يكون المبدع الأكثر قدرة على اجتراح الفكرة من غيره، لذلك ألقى فيصل هذه المهمة على السلطاني فقال الأخير على الفور: (في البدء كان النهر) متماهياً مع الفكرة الإنجيلية (في البدء كانت الكلمة)، معتمداً في تصوره هذا على العراق، وليس على لندن التي يقيم فيها منذ سبع عشرة سنة، فهذا الشاعر مسكون بالعراق، ولا غرابة أن يحمله بين جوانحه أو يضعه في مخيلته المتقدة حقاً. لذلك فإن الصورة الأولى التي قفزت إلى ذهنه هي صورة النهر الذي يواجهك وأنت تذهب إلى كردستان العراق، أو تهرب منها إلى العالم المفتوح. فصورة الهروب الفردي أو الجماعي راسخة في أذهان غالبية العراقيين، وخصوصاً المعارضين للأنظمة القمعية. عازف العود أحمد مختار لم يتوفر على فكرة ما في اللحظة ذاتها، بل أنه اعتبر خلو ذهنه من الأفكار أحياناً جزءاً من العوامل الإبداعية! بدا فيصل وكأنه يهيئ الحاضنة الإبداعية حينما يقول بأن الموضوع سيأتي حينما نرسم أو نعزف أو نفكر، ولكنه أردف قائلاً بأنه مستعد لأن يخوض في أية ثيمة يقترحونها. ويبدو أن بعض الصور التي تضمنها كتاب فيصل التشكيلي قد حفّز أحمد لأن يقترح ثيمة (كلكامش)، وهي ثيمة مناسبة وعميقة جداً، خصوصاً وأن الفنان فيصل لعيبي والشاعر فاضل السلطاني منهمكان بكلكامش وقصة بحثه المؤرقة عن الخلود. بدأت الفكرة تتضح الآن حينما حسم فيصل الأمر وقال بأن كلكامش هي الثيمة المنتخبة هنا، لأنها تنطوي على فكرة البحث عن الخلود، وتحقيق الملذات الإنسانية. أضاف أحمد بأن كلكامش خيال مفتوح ينطوي على أشياء كثيرة، فهو دراما، وعمل نحتي، وتشكيلي وما إلى ذلك. لابد للمخرج أن يتدخل بين أوانٍ وآخر على الرغم من الحرية التي منحها إياهم في التفكير والانتقاء، وسبب تدخّله هو الإعلان عن شرطه الوحيد (بأن لا يبقى كلكامش في إطاره التاريخي) خشية من السقوط في فخ الجمود. يريد السلطاني أن يمسك بعصب الفكرة النابض لذلك يستفسر من فيصل عن المعنى العميق الذي يمثله كلكامش بالنسبة إليه، فيردّ عليه بأن كلكامش وعى إشكالية الوجود، وأن الإنسان يحب هذه الحياة إلى أبعد حد، لكنها حياة قصيرة وفانية، وأن كل هذه المُتع، واللذات، والحُب، وجماليات الطبيعة سوف تنتهي ذات يوم. لقد تحدّى كلكامش هذه الحقيقة وأراد أن يهزم الموت بواسطة البحث عن العشبة التي تمنحه الخلود. أيّد السلطاني هذه الفكرة مضيفاً إليها بأن الإنسان كلما تقدّم به الزمن ازداد عنده النزوع لأن يترك شيئاً ما وراءه يخلّد ذكره، فيما ذهب أحمد إلى أن البحث عن سبب الوجود هو أجمل ما في الفكرة. وتساءل إن كان الخلود هو سبب الوجود أم لا؟ وأكد أهمية البحث نفسها، وهذا الانشغال بحد ذاته يعطي الحياة معنى أكبر، لذلك استنجد بالنفرّي الذي قال: (إن أجمل الأشياء تلك التي لم تولد بعد). يعتقد السلطاني بأن هذه الحياة أبدية ولا تنتهي ذات يوم، لكن لماذا يموت الإنسان فيما استأث
قراءة نقدية في فيلم (كلكامش) لمحمد توفيق..تقنية الارتجال والإمساك بالمصادفة الفنية
نشر في: 8 فبراير, 2012: 07:35 م