سرمد الطائي انشغل هذه الايام بتجارب استوديو هدفها اكتشاف مواهب شبابنا التي يمكن تقديمها الى الجمهور في اطار برامج حوارية "تالك شو"، والغرض ان نحاول سد نقص في الكوادر العراقية التي تحترف إدارة هذا اللون من الانتاج التلفزيوني. فمنذ 9 اعوام ونحن نطلق الفضائية تلو الاخرى لكن عدد "النجوم" الناجحين عراقيا، ظل محدودا بالمقارنة مع حجم البرامج الكثيرة التي تحاور الساسة والخبراء في الشأن العام.
التجارب والتدريبات التي أنشغل بها جعلتني أعود الى ارشيف يعود الى عام 2006، لاستخرج منه نماذج من الاسئلة التي كنت اكتبها لبرنامج حواري في محطة معروفة، كي انتقي منها نماذج صالحة للاستخدام في استوديو التجارب الحالي. وبين تلك الاوراق وقعت عيني على اكثر من نقطة طريفة، تبين كيف كانت لعبة السياسة تدار اثناء حرب اهلية سوداء.ومما لفت نظري من الاحداث "الطريفة" التي اوشكنا على نسيانها، ان زعيما كبيرا في الحكومة يتوسل بجماعة مسلحة معروفة، كي "لا تتدخل في عمل الدولة"، لان هذه المجموعة صارت تعتقل "المجرمين" بنفسها وتزعم انها تسلمهم الى السلطات.وفي اجواء الفوضى تلك كان السفير الامريكي في العراق زلماي خليل زاد كما يبدو من اسئلة الحوارات التلفزيونية القديمة، "يصول ويجول" ويتهمه الشيعة بأنه سني ينحاز الى السنة، بينما يتهمه السنة بأنه امريكي ينحاز الى الشيعة والاكراد. سياسي شيعي يتحدث عن شيء اسمه "الخطة باء الامريكية" هدفها تدبير انقلاب ضد المالكي وجعل السلطة بيد مجلس عسكري "كالذي يحكم مصر اليوم"، كحل لوقف العنف. ويرد بعض الشيعة بأنهم سيقومون حينئذ بتأسيس دولة في 9 محافظات تمتلك بترولا هائلا، وتسحب البساط من تحت ارجل "عمالقة النفط الخليجيين" وزلماي يحاول عبثا اقناعهم بعدم وجود اي فكرة للانقلاب. ثم يرد السنة بأنهم "سيقطعون الماء" حينئذ مقابل قطع البترول.في حلقات غيرها بدا ساسة اخرون وهم يستقتلون من اجل جمع الصدر والحكيم (الاب)، وحارث الضاري (من يتذكره اليوم؟) على طاولة واحدة "لان من شأن ذلك انهاء 60% من العنف" يوم كان الطب العدلي يعثر في بغداد على 100 جثة يوميا. لكن اللقاء لم يحصل بالطبع.اما الدكتور محمود المشهداني رئيس مجلس النواب حينذاك، فيحاول ان ينخرط في اطلاق عملية "المصالحة الوطنية"، عبر مؤتمر جرى تأجيله 4 مرات خلال عام واحد، ويخوض سجالا مع رئيس الحكومة الجديد نوري المالكي (الذي كان اكثر تواضعا تلك الايام)، حول من ينبغي شموله بالمصالحة. المشهداني يحاول ان يبرئ نفسه من الانحياز لـ"فلول النظام"، ويؤكد انه شارك في 5 محاولات لاغتيال صدام لكنها فشلت. ورغم ذلك يظل المشهداني" صريحا وواضحا" ويرفض ان يقتصر التصالح على من تورط بضرب الامريكان، ويقول ان الجميع تورط بدم العراقيين ولابد من العثور على حل يوقف نهر الدم، حتى لو قدمنا تنازلات للمجرمين.خليل زاد حسب "وثائق" الحوارات التلفزيونية العتيقة، كان يقدم تنازلات امريكية هائلة و"يتعارك" مع اعضاء في الكونغرس رفضوا "المصالحة العراقية". هؤلاء قالوا: ان التصالح مع من قتل الامريكان ورفض التصالح مع من قتل العراقيين، معناه ان الدم الامريكي ارخص من العراقي. لكن خليل زاد يرد عليهم "بالتنازلات الكبرى التي قدمها الامريكان ايام حربهم الاهلية وانتهت بوقف العنف".الغوص في تلك الاوراق التي كتبتها بيدي قبل 6 اعوام، كان اشبه بقراءة "وثيقة تاريخية" عن احداث نحاول نسيانها. اقلب الصفحات وأسأل نفسي: هل يمكن ان تعود تلك الايام حقا كما يخشى البعض؟ هل يغامر الساسة ويأخذون الخلافات الى مدى بعيد يمكن ان يظهرنا ثانية بتلك الصورة الساخرة السوداء؟ ام ان حجم المصالح تضاعف حين كثر المال ومن المفترض انه صار "كافيا لاشباع الجميع"؟اخيرا فإن واحدة من الحلقات التلفزيونية كانت تتحدث عن وعود الحكومة على لسان المالكي "فمعظم الجماعات المسلحة ستلقي سلاحها بالاتفاق مع الحكومة وسيسود الامن، اما الكهرباء فستعمل جيدا عام 2009، فضلا عن مشكلة السكن التي ستحل قريبا جدا". انني اقرأ وأهز برأسي وأنا أقف على مسافة 6 اعوام من تلك المعلومات والاسئلة.. وأشعر ان القلق هو ذاته، وأن ساستنا لم يتغيروا قيد انملة، لا يمينا ولا يسارا.
عالم آخر: من أرشـيف "حـربي الأهـلية"
نشر في: 8 فبراير, 2012: 10:18 م