لندن- فيصل عبد الله- عندما وقع اختيار مجلة "لايف" الأميركية على صورة "طفل يمسك بسبابة أصبع أمه بعد خمس دقائق من ولادته"، ليكون غلاف عددها التجريبي في عام 1936، لم يخطر ببال الشابة أيف أرنولد ان صورتها تلك ستكون المدماك الأول لعصر جديد.
ولعل تلك الصورة، بما تحمله من معاني الولادة الجديدة ورمزيتها الباذخة، حسمت خيارات أرنولد نهائياً. بين ولادتها في فيلادليفيا عام 1912 لعائلة روسية مهاجرة الى أرض الأحلام الأمريكية، وإنتقالها من دراسة الطب الى عالم الصحافة الفوتوغرافية، وبين وفاتها في لندن يوم الرابع من الشهر الماضي وعن عمر قارب المئة عام، يكون الوسط الفني والصحافي قد خسر أشهر فوتوغرافيّ القرن العشرين، وأحد أهم بناة عصره الصوريّ.- تندرج اشتغالات أرنولد ضمن منحى تماهي اليومي مع المشهدي، وكان لتجربتها الفوتوغرافية المرور بمراحل؛ إذ شكل غيتو حي "هارلم" النيويوركي، بسكانه الملونين، أولى تلك المراحل. وكان لدراستها الفنية من بعد في "مدرسة نيويورك للبحوث الإجتماعية" في عام 1948 الأثر الكبير بتعميق قناعاتها الفنية والسياسية والفكرية. فما حملته من عوالم "المهمشين" واحتفالاتهم، خصوصاً الدينية والاجتماعية وعروض الأزياء، وجدت تحققاتها الباهرة، بالأسود والأبيض، على سطوح الصحافة الورقية. وكان على الطرف الآخر اشتغالات وكالة "ماغنام" للتصوير الصحافي الشهيرة، تأسست في عام 1947 من حفنة أصدقاء منهم هنري كارتيه-بريسون وروبرت كابا (قتل في فيتنام في عام 1954) وديفيد سيمور (قتل أثناء الهجوم الثلاثي على السويس في عام 1956) وجورج روجر وغيرهم. تلك التي وثقت التاريخ محكياً بعين العدسة، كما في رصدها لحالة الكساد الاقتصادي والحرب الأهلية الإسبانية والحرب العالمية الثانية وما جرته من هجرات وانزياحات اجتماعية ومذابح وعوالم الموسيقى والأزياء ورجال السياسة، وفق أسس تتجاوز الصدمة المباشرة للصورة.- فالقول الشائع إن عدسة الكاميرا لا تكذب أبداً، أُستبعد من مبادئ وكالة "ماغنام" الصحافية. ذلك ان قناعات مؤسسيها وهمومهم كانت تدور حول سهولة التلاعب بشكل الصورة ومضمونها. لكن الأهم هو ما تخفيه الصورة الفوتوغرافية من قيم جمالية وعاطفية، وللقطة نفذت خلال أربع ثوان ربما. أرتبطت أرنولد في العمل مع وكالة "ماغنام" الصحافية في عام 1951، ورشحت منتسبة في عام 1955، وزميلة أساسية في عام 1957، ولتكون بذلك أول أمرأة في تاريخ تلك الوكالة وفي مهنة أقرب الى الحصرية للرجال. صحيح ان سجل أرنولد الفوتوغرافي حمل قائمة واسعة من الأسماء السياسية مثل، الزعيم مالكوم أكس وجوزيف ماكارثي وملكة بريطانيا، ومثلهم الفنية مثل، مارلون براندو وديرك بوغارت وجوان كراوفورد واليزابيث تايلور وزوجها ريتشارد بيرتون وجيمس ديّن وجون هيوستون وغيرهم من العشرات. لكن اسمها ارتبط بالنجمة والإيقونة الأمريكية مارلين مونرو، وبشكل لم يتحقق مع فنان او مصور آخر. إذ عقدت صداقة بين الأثنين أمتدت لعقد من الزمان، وكان من ثمارها صور شكلت من بعد مراجعاً هائلاً لألق النجمة مارلين وأفولها في آن.- تلك الصداقة قادتها في عام 1961 إلى صحراء نيفادا حيث مواقع تصوير شريط "النشاز"، الذي كتبه آرثر ميلر، وكان العمل الأخير لبطليه كلارك كيبل ومارلين مونرو، ومن إخراج جون هيوستن. ما تقوله مجموعة صور مارلين مونرو وتقترحه كان بمثابة بحث سيميولوجي باهر بكل تجلياته الفنية والدلالية. هنا تتحول النجمة مارلين مونرو على يد أرنولد الى موضوع/ مادة غير مشكلة لسانياً. فهي مثلما تلهب الخيال بتشكيلاتها الإيحائية والحميمية، خصوصاً صورها وهي مستلقية على فراشها أو في الحمام أو لحظة خروجها من حانة او حاملة مرآة وجنبها المصورة، فإن وجهها الثاني يقترح الرثاء الآسر لنجمة ظنت أن عمرها الفني سرمدي.- لكن يخطأ من يظن أن اشتغالات أرنولد الفوتوغرافية اقتصرت على عالم المشاهير. إنما فضولها قادها الى مواقع ربما بدت لا جامع بينها. فهي تتبعت الفقراء والمعوزين وكبار السن والناس العاديين، ومثلهم وثقت حركة الحقوق المدنية للسود الصاعدة في أمريكا إبان ستينات وسبعينات القرن الماضي. وتبعتها برحلة طويلة الى أرض الأجداد، الاتحاد السوفياتي، ومن ثم الصين تلك التي ضمها كتابها المهم "الصين- تاريخ صوري". وكذلك العالم العربي، الخليج تحديداً، وعبر في شريط سينمائي بعنوان "نساء خلف الحجاب"، حيث دخلت عوالم حمامات النساء والحريم. وعلى الرغم من أن الكثير من اشتغالاتها الفوتوغرافية وجدت طريقها الى أهم المجلات المصورة، إلا انها بقت أمينة إلى اللونين الأبيض والأسود.- ما بقي من أيف ارنولد قولها المعبر، أن عدسة الكاميرا لا تصنع فوتوغرافياً، بل تكمن في نظرته إلى تلك اللحظة العابرة في حياة الناس بغض النظر عن مواقهم الإجتماعية. نظرة بمثابة موشور نحدد من خلالها طريقة علاقتنا بالعالم، كيف نعمل لنعيش، وكيف نعيش لنعمل.
إيف أرنولد التي غادرتنا...صداقة طويلة مع مارلين مونرو وتوثيق لأبرز وجوه القرن العشرين
نشر في: 10 فبراير, 2012: 08:04 م