TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > تلويحة المدى: الاكتفاء الذاتي ثقافياً

تلويحة المدى: الاكتفاء الذاتي ثقافياً

نشر في: 10 فبراير, 2012: 08:06 م

 شاكر لعيبي يبدو أن اكتفاءً ذاتياً على المستوى الاقتصادي هو أمر مطلوب، حتى في زمن العولمة، لكن الاكتفاء الذاتي على المستوى الثقافي لا يبدو إلا سمة تسم الأنظمة الشمولية في المقام الأول. إنه رديف للانغلاق على الذات، وانطواء على حصص محددة سلفا من الوعي، وشعور بالكفاية التي نقتطع شريحة منتخبَة من المنتج اللامتناهي، بالغ التنوّع والتعقيد والتناقض المسمى ثقافة، وتعتبرها الثقافة كلها. جميع البلدان الشيوعية كانت تُعْلن هذا الاكتفاء إلى درجة أنها ظلت تُنتج حتى المفاهيم الثقافية الخاصة باكتفائها الذاتي، مثل مفهوم الواقعية الاشتراكية.
وإذا ما استبعدنا بعض الأسواق العربية الكبرى، المكتفية ذاتياً في توزيع واستهلاك منتجاتها الثقافية مثل مصر، فإن التجربة في العالم العربي تدل على أن الأنظمة الديكتاتورية القمعية فيه، توطّن مفهوم الاكتفاء الذاتي الثقافي تحت ذرائع شتى، وتسعى إلى إقناع اللاعبين الثقافيين بأن مثل هذا الاكتفاء يصب لصالح الجماعة الوطنية، بل هو رديف لمنافعهم الشخصية نشرا وترويجاً ومكافأة مالية من دون منافسين مزعجين قادمين من آفاق بعيدة أخرى.من أول تمظهرات هذا الاكتفاء الثقافي ممارسة الرقابة على الصحافة والتنظيم الحديدي لسوق الكتاب، إلى درجة أننا شهدنا في بلدان مثل العراق وسوريا اختفاء أي صحافة غير صحافة الحزب الحاكم. وإذا ظهرت صحافة أخرى فأنها مراقبَة إلى حد صارم لا يمكن سوى أن يجعل منها نسخة محسّنة مزوّقة من الصحافة الرسمية. أما سوق الكتاب فإنها تخضع إلى عيون رقابية لا ترحم فلا تسمح إلا بالكتب التي تلائم مشروعها.في مثل هذه العملية تُمارَس عملية "تجهيل" واسعة النطاق للجمهور العريض من أجل بقاء المفاهيم التي تتبناها السلطة. وبدلاً من الثقافة المنفتحة الحرة، تشيع ثقافة مراقبَة، مغربَلة، منتخَبة وفق منظور خاص، ثقافة مقتنِعَة بنفسها، تود إقناع جمهورها أنها تمثل خير ما في ثقافات العالم لذا فهي تستبعد الفاسد الرديء، المسيء إلى أمتها وحضارتها، وأنها تغلق المنافذ على المتسللين لإفساد العقول،. وقد يصل هذا الاكتفاء الذاتي إلى درجة مشروع "ثقافة بديلة" تقوم بعملية انتقاء تلفيقي من ثقافات العالم، أو تروج على أوسع نطاق لممارسات ثقافية غير تلك المقروءة والمكتوبة، مثل ثقافة كرة القدم في تونس، وأكل القات في اليمن، وما إلى ذلك.إن ثلاثين عاما من هذا الاكتفاء الذاتي الثقافي والاستبعاد والرقابة، اللصيقة كلها بقمع الأنظمة الشمولية وأنظمة الحزب الواحد، كفيل بخلق جيل أو اثنين من "المثقفين" المحليين من طراز خاص. من أوضح الأمثلة على اكتفاء ذاتي خلقه نظام شمولي، ما يمكن أن يشهده المرء في البلاد التونسية. من باب الطرفة قلتُ مرة، تعبيراً عن هذا المأزق، لصديقي صلاح بن عياد إن الجغرافية التي يتحرك فيها جل مثقفي العاصمة تونس تمتد طولاً من نصب الساعة في أقصى شارع الحبيب بورقيبة إلى بورت دوفرانس المؤدي، في نهاية الشارع، إلى سوق القصبة القديم. على مسافة كيلو متر واحد تقريبا، يعيش أولئك المثقفون برخاء واكتفاء ذاتي صافٍ بعيدا عن صخب الثقافة في العالم، وعن أمثولات كبار أساتذتهم التوانسة وبعض مجايليهم الذين خرجوا بجسارة وحرية إلى الفضاء الرحب. بن عياد نفسه يكتشف الآن مندهشاً أن بعض المثقفين والمحررين الثقافيين لا يعرفون مثقفا مثل سليم بركات. هذه واحدة من نتائج الاكتفاء الذاتي الثقافي الذي وطّده نظام بن علي. في العراق أيضا وصل الاكتفاء الذاتي لثقافة النظام السابق إلى درجة أن جيلا كاملا من شعراء البلد لا يعرف جيلا كاملا سابقا خارج البلد. ما زال البعض حتى اللحظة في إطار وعي الاكتفاء الذاتي السابق عينه دون أن يدري.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram