د. معتز محي عبد الحميد اذا جاز لنا ان نشبه الصراع الدائر منذ القدم بين المجرم واجهزة الشرطة كالدائرة بين متباريين في مسابقة للعب الشطرنج ( مع الفارق في التشبيه والقياس ) يملك كل منهما قديما نفس الادوات والمعدات، فاننا نقول ان هذا الصراع كان ينتهي غالبا وفي الصورة العظمى منه لصالح اجهزة الشرطة بسبب العدد المحدود من الجرائم التي كان يضطلع بها الاجرام التقليدي اضافة الى نمطية التفكير
والاداء لها وضيق المساحة والفرصة الزمنية التي يسمح للجناة للتحرك فيها او خلالها وايضا معرفة هذه الاجهزة الامنية للعديد من مرتكبي هذه الجرائم وغالبيتهم من ارباب السوابق وممن سبق القبض عليهم اكثر من مرة، الامر الذي كان يسهل على الشرطة سرعة التوصل اليهم من خلال التوصل الى اسلوب ارتكاب الجريمة والاداة المستخدمة في ارتكابها والدافع اليها وهو ما كان يتم معرفته في اللحظات الاولى التي ينتقل اليها المحققون لمسرح الحادث ومعاينته، ولذلك كان يغلب على الاداء الشرطي بمبدأ او اسلوب رد الفعل الذي يتلخص في انتظار الشرطة لحين قيام المجرم بتنفيذ مشروعه الاجرامي كاملا او الامساك به حال الشروع في ارتكابه أي البدء في التنفيذ له بمعرفة الناس ومن ثم تقوم بالبدء في اتخاذ اجراءاتها الجنائية من سؤال للشهود والمجني عليهم ومعاينة مسرح الجريمة وبرفع ما يوجد من اثار او مواد تفيد في الصاق التهمة بمرتكبيها ومواجهة الجاني او الجناة بما تم العثور عليه او بما جاء في اقوال الشهود او الضحايا، وفي كثير من الاحيان تلجأ ايضا اجهزة الشرطة الى سؤال الجاني في حالة قيام المواطنين او الضحايا بالامساك به لحظة ارتكابه للجريمة او لحظة دخوله مسرحها او عقب الانتهاء من ارتكابها وقيامه بمغادرة مسرحها وما ارتكبه من جرائم سابقة ومن هم شركاؤه وما اسلوبه الاجرامي والادوات او الوسائل التي يستخدمها في ارتكابه جرائمه وزمن ومكان ارتكابها مما يؤدي الى الكشف عن الكثير من غموض هذه الجرائم. ولكن كل هذه الاجراءات التي تقوم بها الشرطة مرهونة بعامل الصدفة وانتظار لحظة الايقاع بالمتهم وليس بفضل الخطط الامنية والجهود المعدة سلفا للايقاع بالمتهم والتي تعتمد على مناهج واساليب امنية ترتكز على أسس علمية ومنهجية في مجال البحث والتحري الامني، كما تقوم به اجهزة الشرطة في الدول المتقدمة، وان كان هذا اصبح امرا نادرا الحدوث بسبب انتشار مبادئ حقوق الانسان والحريات والضمانات التي كفلتها القوانين والدساتير للمواطنين بفضل ما اتاحته وسائل الاعلام الفضائية وغيرها من طرق النشر التي اصبحت ميسره ذيوع هذه المبادئ، بالصاق الجرائم المجهولة والتي لم تتمكن الشرطة من التوصل الى مرتكبيها الى من يتم القبض عليهم مصادفة كما يحدث عندنا الان بهدف ابراز قيامها ببذل الجهود والقيام باعمال استخبارية معينة – وذلك على خلاف الحقيقية – والتي ادت الى كشف خفايا هذه الجرائم! مما سبق يتضح ان العمل باسلوب رد الفعل والذي ما زالت تتبناه اجهزتنا الامنية في مجال مكافحة الجريمة والعنف يؤدي الى الكثير من النتائج السلبية التي تنعكس على الدور الواجب القيام به من جانب هذه الاجهزة لتوخي الجريمة او منع وقوعها سواء منعا كليا او جزئيا وايضا على النسبة المكتشفة من الجرائم التي وقعت بالفعل وعدد المجرمين الذين يتم التوصل اليهم وملاحقتهم والقبض عليهم وتقديمهم للمحاكمة، مما يؤدي الى التقليص من عددهم والاجهاض على البؤر الاجرامية التي يشكلونها ويسعون الى التوسع فيها سواء بضم المزيد من العناصر الاجرامية اليها او دعم وتقوية خلاياها النائمة من خلال التزود بالوسائل والمعدات والاسلحة التي تمكنها من ارتكاب المزيد من الجرائم كما يؤدي هذا الامر الى ظهور انواع اخرى من الجرائم نتيجة تنامي التيار الاجرامي وتزايد نفوذه من جراء عدم قيام اجهزة الشرطة بدورها الفعال حياله بخطوات مسبوقة تؤدي الى الاجهاض عليه او منعه او الحد من خطورته بدرجة مؤثرة، كذلك ينجم عن اتباع ذلك الاسلوب حدوث نوع من عدم الاستقرار الامني وشعور الناس بالخوف من الجريمة وزعزعة الثقة لديهم بقدرة الاجهزة الامنية الموجودة كما يحدث الان من تخبط في الاداء وانفعالية وقتية تعسكر الشارع ثم تختفي عن الانظار وكأن شيئا لم يحدث... ادى ذلك الى اعتماد كافة الاجهزة الامنية على سبل واجراءات اتسمت بالانفرادية وعدم الالتزام بالقانون وقواعده للحفاظ على امن المواطنين مما ادى الى حدوث عواقب وكوارث امنية وخيمة يصعب وضع حلا لمعالجتها في الوقت الحاضر!
تحت المجهر :التنبوء الأمني.. وصناعة القرار
نشر في: 12 فبراير, 2012: 09:54 م