نجم والي(1-2)ما الذي يحمل المرء على البحث عن شيء، أو عن إنسان، لم يكن قد تعرف عليه، أو عن رائحة تلتصق بالذاكرة، أو عن بيت يحمل سراً وجلاً؟ لا أعرف جواباً بالضبط، لكني أينما ذهبت، وفي أي مكان حللت، اشعر بقرابة مع أشخاص، عاشوا هناك.
من غير المهم مدة إقامتهم، يكفي أن خطواتهم طبعت آثارها الأرض التي تطأها الآن قدماي، أنا الغريب، الذي لا يريد أن يشعر بأنه غريب، فيلجأ للتفتيش عن أسلاف له، أصدقاء في المكان الغريب. ذلك ما شعرت به، في زياراتي المتعددة، لبيت دوستويفسكي في سانت بطرسبورغ، في بيت لوركا في فوينتا ديل الباكيرو، بيت توماس مان في فيلدافينغ، بيت فرناندو بيسوا في لشبونة، بيت لورنس داريل في الإسكندرية، وبيت كافافيس في الإسكندرية. لكن الكثير من أصدقائي هؤلاء، تنقلوا على الأرض، مثل "بحار على اليابسة"، (الجملة المحببة التي كتبها رفائيل البرتي عنواناً لأول ديوان له، وسمعتها منه في زيارتي له في شقته بمدريد) أحد هؤلاء كافافيس.عندما غادر كونستانتينوس كافافيس المدينة التي تولع بها لم يلتفت إليها، كأنه عرف إنه بات يعود إليها ثانية. لكن كما يبدو كل مدينة تتصرف على طريقتها الخاصة: وهذا ما تؤكده إسطنبول. فكما لو لأرادت المدينة الانتقام (مثل حبيبة ظلت تنتظر حبيبها لوحدها) ابتلعت ببساطة كل ما يُذكر بالشاعر الذي أحبها. ليس هناك تمثال ولا زقاق صغير. ليس هناك مخطوطة أو معلومة سياحية تشير إلى الشاعر الشهير والغريب جداً، اليوناني كونستانينوس كافافيس المولود في 71 أبريل/ آذار 1863 في الإسكندرية مصر، المتوفى في 29 أبريل/ آذار 1933 أيضاً في الإسكندرية الذي تنقل في حياته بين محطات عديدة: مارسيليا، باريس، ليفربول ولندن، في 15 كوينبوروف تيراس القريب من الهادي بارك، في بيت مكون من عشر غرف كان أجاره 200 جنيه إسترليني في السنة، كما قال لنا البروبسبيكت السياحي في زيارتنا الأخيرة للندن، في ذلك الوقت كانت الحياة ما تزال تضحك أمام الشاب كافافيس.اسطنبول كانت محطته بعد لندن. لكن دون عنوان، لأن الشاعر ذاته لم يشأ ذلك. فهو قد طلب من أصدقائه مثلاً مراسلته على عنوان بنات عمه. كل الآثار التي يمكن أن تقود إليه محاها الزمن. لم تكن اسطنبول محطة اختارها الشاعر طواعية. كان مجبراً. ففي يوليو/ تموز 1882 اندلعت في الإسكندرية اضطرابات معادية للأجانب انتهت إلى ارتكاب مذابح ضد السكان المسيحيين، بالتوازي من ذلك راح الإنكليز يقصفون المدينة. وسط ذلك الجو هرب من يستطيع الهرب. الأم هاريكليا كافافيس وأبناؤها الستة، بينهم كونستانتينوس، الأصغر صعدوا في بداية شهر يوليو/ تموز السفينة التي حملتهم إلى المدينة الواقعة على مضيق الفوسفور. كانت العائلة في تلك الفترة تمر بظروف معيشية قاسية، فبعد موت الأب كافافيس في 1870 فقدت مصدر الرزق الأساسي.هكذا هربت العائلة باتجاه اسطنبول، حيث استقبلها الجد على مضض. كان اسمه جورج فوتياديس وكان يملك Yali، كما كان يُطلق على الفيلات المبنية من الخشب المزودة بالأبراج المطلة مباشرة على البحر. الفيلا وقعت في الضاحية التي يطلق عليها الأتراك Yaniköy (تعني القرية الجديدة) والذي يترجمه اليونانيون بـ Neochori. لأن في ذلك الحي سكن العديد من اليونانيين، المشهورين أيضاً، أطباء ومعماريين ودبلوماسيين في خدمة السلطان. الجد فوتيادوس كان تاجراً بالجواهر. ولكن عندما تمر التجارة كما هي الحال غالباً في فترة كساد يرقد على فراش المرض ويعيش على القروض. في أزمان مثل هذه يتحول العيش في الفيلا المطلة على البحر إلى نوع من التعذيب لعدم وجود خشب كاف للتدفئة. "التفكير بماما وبك، أنتما اللذان تعيشان في حال بائسة جداً في يانيكوي يحزنني بصورة خارقة" كتب جون كافافيس (الذي من أجل كسب المال عاد مباشرة إلى الإسكندرية للعمل) إلى أخيه كونستانتينوس.أي هبوط اجتماعي عاشته العائلة التي اعتادت قبل ذلك على امتلاك الطباخين والخدم! ربما لذلك السبب لم يذكر كونستانتينوس الفيلا تلك في رسائله بالمرة. لكنه رغم ذلك وصف هذا المكان الذي حرضه على كتابة الشعر، مثل عاشق: "حتى من رائحة الأرض ستسكر". في اسطنبول لم يكتشف كافافيس موهبته الشعرية فقط، إنما ميوله الجنسية المثلية. وهذا الجانب أخفاه أيضاً.
منطقة محررة: في البحث عن كافافيس في إسطنبول
نشر في: 14 فبراير, 2012: 07:30 م