شاكر لعيبيلا يجادل تقريباً أحدٌ اليوم أن ثمة فضائياتٍ قوميةً كبرى في العالم العربي، صارت معروفة للقاصي والداني، العربي والأوربي. ومنها على وجه التخصيص قناتا الجزيرة والعربية. لقد برهنت القناتان بفضل سيولة نقدية كبيرة، احترافية عالية، ورصد للخبر في أوانه، وتوفرّتا على شبكات مُعْتبرَة من المراسلين والصحفيين والتقنيين الذين وُضعت تحت تصرفهم أحدث الآلات ووسائل الاتصال والأقمار الصناعية.
إنهما تعلنان للملأ بأنهما تدافعان عن الاتجاه الآخر المعاكس (الجزيرة)، أو إنهما تمتلكان المصداقية (العربية). وقد أخذنا هذا الإعلان على محمل الجد، وما زلنا. وفي الحقيقة فقد عبرّت هاتان الفضائيتان مراراً وتكراراً عن رأي معاكس ما ومصداقية ما، ولكن ليس الرأي المعاكس كله ولا كل المصداقية المأمولة التي ما زلنا نتمنّاها. لقد ثبت اليوم للجميع أن هناك هواجس، إذا لم نقل سياسات محددة، تحرِّك نشاط القناتين. إن مفاهيم التواصل الاجتماعي وفكر الميديا المعاصرة تطلب منك أن لا تعلن الهواجس الفعلية التي تُحرِّكُكَ. تصرّفْ كما لو أنك في مطلق الحياد وكأنك تغطي الحقيقة عارية من دون أيديولوجيا ولا خلفية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو طائفية. ثابرْ دون كلل على القول إنك تنقل الأشياء مثلما هي وكما تراها عين الكاميرا (الموضوعية)، حتى لو قمتَ بمونتاج معين أو تكرار ملحّ للقطات معينة أو أنك تجاهلت عين الكاميرا في مكان آخر. صوّب مثل رامٍ ماهر إلى قلب عدوكَ زاعما أن تطلق رصاصكً في الهواء. افعلْ على هذه الشاكلة، لأنك في العالم الحديث المعقد، ما عدا ذلك فستقوم بإعادة إنتاجٍ لنسق التلفزيونات العربية التي تبشِّر عن سابق قصد بالسياسة الوحيدة التي تعتبرها الحقيقة المطلقة الممكنة، وستكون لذلك من الفجاجة والملل بمكان كبير. لكن الصورة الفوتوغرافية ليست موضوعية دائماً، لأننا قادرون بتأطير معين على تغيير معناها رأسا على عقب، وأن الحذف لصالحك أو لصالح خصومك هو المبدأ الأساسي للمونتاج. كما أن الحياد والموضوعية والاستقلالية غير ممكنات عملياً طالما ثمة رأس مال ذو مصالح محددة يموُّلكَ: استقلالية صحفييك واهية لأنهم لا يستطيعون الخروج على السيناريو المعدّ في مطبخ الأخبار. ومهما كانوا من كبار المثقفين والمحللين الثاقبين ذوي الرصانة والشهرة فسوف يطاح بهم إذا خرجوا على النص. وحتى لو طعِّمت طبختك بالكثير من توابل الرأي المعاكس والعديد من معطيات المصداقية فإن لك حدوداً عليك أن لا تتخطاها وهذه تقع هنا: السياسة الأصلية التي تأسست بموجبها القناة التي تعمل فيها.أين نحن من ذلك في حالة الفضائيتين المذكورتين؟. علينا الحذر عند الإجابة في عمود مقتضب مثل هذا. لقد صارت هاتان القناتان (فضائيتين قوميتين)، أي للعرب قاطبة بمعنى من المعاني. ويمكن الافتراض ببعض السذاجة أن المساحة الواسعة التي تشغلانها في ضمير المشاهدين تجعلهما تحوزان نظرياً فضيلة المنبر المحايد المرغوب به الذي لا ينتمي فقط لمموّله وسياساته. ومهما كانت درجة الوهم في هذه الفرضية، فإن وضعية القناتين العملية في أذهان الكثير من المشاهدين تلقي عليهما بعض المسؤولية: الكف عن التبشير مداوَرة بالرأي الواحد المقال بطريقة بارعة، والتصريح خلاف الإضمار. في تعاطي القناتين مع يجري في العالم العربي اليوم دليل على سياسة ذات استهدافات محددة بعضها آنيّ والآخر بعيد المدى، وثمة أحيانا قميص عثمان بدمه العبيط.أما إذا كانت مثل هذه المسؤولية الضرورية التي نأمل بها، الملقاة على عاتق القناتين، غير ممكنة في الشروط الحالية، فأظن أن تأسيس قناة قومية شاملة على نمط الجزيرة والعربية وبالاحترافية التي تعملان بها، يصير منذ اللحظة ضرورة في العالم العربي، بحيث علينا أن نتخيَّل قناة قومية عربية على نمط القناة القومية الإنكليزية الـ (BBC)، المحايدة أكثر بدرجات كبيرة من قنواتنا العربية المحترمة.
تلويحة المدى: الفضائيات الكبرى والرأي الواحد
نشر في: 17 فبراير, 2012: 07:32 م