هاشم العقابيقبل أيام جمعتني الصدفة برجل أمريكي ستيني في "النادي اليوناني" بوسط القاهرة. جاء الرجل وزوجته في زيارة لمصر ليكمل بحثا بدأه قبل سنوات حول أغاني ام كلثوم. وكعادة اهل الغرب حين يتعرفون على شخص لأول مرة، سألتني زوجته من اين أكون في الاصل، فأجبتها: من العراق.
ومن أي جزء فيه؟ قلت: من بغداد. فاجأني الزوج بالرد: ونحن كذلك! سألتهما بعد ان كدت أطير فرحا: أمن بغداد انتما أيضا؟ ثم قلت لهما بعراقية صرفة: لعد الله بالخير. ابتسما وقالا: لا نتكلم العربية للأسف. وكيف؟ لاننا لسنا عربا ولا عراقيين، كل ما في الأمر اننا من بغداد. وليبدد الرجل حيرتي أكمل: انها ليست بغداد التي على دجلة، بل "بغداد التي على الخليج". ألم تسمع بها؟ كلا، للأسف، لم اسمع بذلك. ردّ: انها فرانسيسكو التي حملت اسم بغداد قبل أكثر من ستين عاما، تحببا ودلعا وافتخارا ببغدادكم. أكملت زوجته مشوار الحديث عن بغداد وقالت ان هناك جيلا عريضا بأمريكا ما زال يسمي فرانسيسكو بغداد، ولا تستغرب لو انك قلت لسائق تكسي اريد الذهاب الى بغداد على الخليج فأوصلك لوسط فرانسيسكو. اصل الحكاية هو ان الكاتب الامريكي "هرب شين" Herb Cean الذي يعد من اشهر وأحب كتاب الاعمدة عند الامريكان، خاصة اهل فرانسيسكو، والذي واظب على كتابة عمود يومي على مدى 60 عاما متواصلة، كان هو السبب في اعطاء اسم بغداد لمدينته، من خلال عمود عنونه: "لا تسموها فرانسيسكو .. إنها بغداد". ثم اصدر كتابا في العام 1949، جمع فيه نماذج من مقالاته، حمل عنوان: "بغداد على الخليج" Baghdad by the Bay . ودعت الأمريكي الظريف وزوجته متلهفا لأبحث عن “بغدادهما” في الانترنت. فماذا وجدت؟ عشرات المقالات والحكايات التي يقول بعضها انه مر زمن على أهل فرانسيسكو نسوا اسمها الاصلي وصاروا يسمونها بغداد. وهناك صحف ومحطات إذاعة ونواد فيها تعتز بانها تتخذ من بغداد اسما لها. وتكاد تجمع كل الآراء على ان "هرب شين" اختار ذلك الاسم تيمنا وانبهارا بجمال بغداد وسحرها وتنوعها الثقافي والحضاري. وان كان ما سمعته من الأمريكي وزوجته قد ادمع عيني فرحا واستغرابا، فلقد أبكاني موقف مثقفي مدينة بغداد التي على الخليج وشعرائها وفنانيها من تفجير شارع المتنبي ببغداد التي على النهر في العام 2007. لقد بادر واحد من اكبر مالكي دور النشر هناك بإنشاء تجمع اسماه "ائتلاف شارع المتنبي" ضم اشهر المثقفين الذين تظاهروا بشارع "بوذا". لقد فرشوا الشارع بلوحة فنية طويلة كتبت عليها 130 قصيدة تضامنا واحتجاجا وحزنا على ما حل بشارع الثقافة ببغداد. أراهم وكأن النيران التي التهبت بالمتنبي قد مست أضلعهم كما مست أضلع الكتبي نعيم الشطري الذي صار يصرخ وينوح وحده وهو يرى شارعه، الذي استودعه قلبه وافنى به سنين عمره، يحترق. ليتني كنت اعلم بذلك من قبل لطلبت منك يا نعيم، ان تذهب الى بغداد التي على الخليج فلعلك تجد في ائتلاف شارع المتنبي الذي هناك، عشيرة وأخوالا وأعماما يستجيبون للوعتك أكثر من أهل ائتلافاتنا وعشيرة برلماننا وأصحاب السلطة عندنا.
سلاما ياعراق : لا تسموها فرانسيسكو.. إنها بغداد
نشر في: 18 فبراير, 2012: 08:45 م