سرمد الطائي كم عراقيا "يتعارك" مع نظيره من اجل 5 دنانير؟ كم واحدا يعيش على 5 دنانير في اليوم؟ ماذا يأكلون وكيف يمضون يومهم. ان التردد اليومي على مؤسسة المدى منحني فرصة الخروج من "محبسي" في الوزيرية، حيث كنت انغمس 14 ساعة في اليوم داخل عمل صحفي مضن، فصرت اقطع بغداد طولا وعرضا واعيد اكتشاف وسط المدينة القديم من شارع الرشيد حتى شارع السعدون بكل ما لتفرعاتهما من تعقيد اجتماعي وسياسي وانثروبولوجي، وأرى ما أرى.
ان هذه المنطقة تمثل "الشوارع الخلفية" لا للعاصمة فحسب، بل للعراق كله. وانا استنشق في هذه الحواري، رائحة كل الشوارع الخلفية التي عرفت.. من عشار البصرة، الى "طوبخانة" طهران، و"داون تاونات" بيروت وعمان ودمشق.. وسواها. والفرق ان النماذج في العراق تختزن مأساة أكبر، تجعل من كل مواطن شاهدا حقيقيا على "سقوط حضارة".هنا عدد كبير من افخم بيوت الشرق الاوسط، مبني بطابوق من طراز بابلي، ومزين بكتل خشبية مصنوعة بعناية، حفرا ونقشا وتصميما، لم ينل منها الزمان الا خدوشا وشقوقا يسيرة. لكن الماضي الفخم هذا، شوهه الحاضر بمفارقة كبيرة. وبدل ان يقطنه ارقى افراد الاجتماع، صار نهبا للطبقة المسحوقة. فالشرفات والشبابيك المنحوتة بالخشب والحجر، تلتف عليها ملايين الاسلاك الصاعدة من مولدات الكهرباء، وتسودها مداخن المولدات ذاتها، والانكى ان الدكاكين المقامة تحت افخم المباني، هي محلات للديكور تقدم لنا ديكورا صينيا عاديا وتافها احيانا، وحين تأتي لشراء قطعة حديثة سخيفة، تنظر بحسرة الى شرفة منحوتة فوقها لا يمكن لاي مصمم حديث في العاصمة ان يضاهيها.وما دون ذلك، آلاف البشر القادمين من ضواحي العاصمة، يعيشون بطريقة غرائبية. تشرب الشاي قرب دكة على الشارع، فيأتي عامل بسيط ليتخاصم مع بائع الشاي هذا: اطلبك 5 آلاف دينار (3 دولارات)، وإذا لم تسدد فسأقوم مع اصحابي بإغلاق دكتك فورا. يصرفه الرجل ويرفع صوت جهاز التسجيل الصادح بأغنية لناظم الغزالي. اما "العصابة" التي تتربص به بسبب 3 دولارات، فتتجمع عند دكة اخرى وترفع صوت جهاز تسجيل يصدح بقصيدة دينية. تتقاطع الالحان وأبخرة "الحلولو" والدهن الذي يغلي بالفلافل وباقي المأكولات، ويوفر غذاء رخيصا لآلاف العاملين في كل المهن.وحين زارنا الكاتب ذو الموهبة الفذة "مرتضى كزار" والمشغول بفن الرواية العالمية، لم نجد افضل من هذا المكان لاستضافته. اخذناه لمطعم على قارعة الطريق، حيث يوجد 4 كراسيّ للزبائن، بينما يعمل 6 أشخاص على خدمتهم، وسط أبخرة المشاوي والبيض المقلي. قال مرتضى: انه فطور "الواقعية السحرية". هناك تسمع ثرثرة الباعة حول ازمة طارق الهاشمي مع المالكي والمطلك، واسئلة لا تنتهي حول جدوى الميزانية ذات المئة وعشرين مليار دولار. كيف يمكن لهذا المبلغ الطائل ان يغير حياة ملايين العراقيين الذين يعيشون على "شواء الحلولو" وبيع بطاقات الرصيد والعلكة في تقاطعات المدن؟لم أتعود التوغل في "العالم السفلي" هذا، منذ 20 عاما، يوم كنت اعمل "صانعا" لدى مصلحي السيارات أيام المراهقة. لكنني مع الزملاء نحاول هذه الأيام العودة الى اكتشاف "العالم السفلي" بوصفه البيئة الاساسية التي يتلاعب بها السلطان، معيشةً ومصائرَ و أصواتاً انتخابية. في هذا المستوى البائس من الانسحاق الاجتماعي، يتم التلاعب بخيارات الناس، والمساومة على اصواتهم، وشحنهم طائفيا واجتماعيا وسياسيا. وسيكون من السهل على ألف أمير حرب، ان يستخدم بؤس بشر يتقاتلون على 3 دولارات، ويهددون بإغلاق دكة بيع الشاي اذا لم تستجب لطقوس "الشوارع الخلفية".تناولنا فطور "الواقعية السحرية"، وسط دخان "الحلولو" ورائحة الخبز العراقي، وبعضنا اصيب بالتسمم نتيجةَ واحدة من الأكلات الغريبة على قارعة الطريق. لكن ما يشغل المرء في مفارقات "الشوارع الخلفية" المؤلمة، هو سهولة ان يتلاعب "السلطان" بهذه الجموع المسحوقة، ويحولها الى مشروع لتدعيم سلطانه، ويستثمر غضبها وشعورها العميق بالتهميش، ليثأر من كل خصومه.. في مدننا التي توحدها مظاهر بؤس وعوز وحرمان متشابهة.. لا يعالجها حتى مليون جندي ينشرون سيطراتهم على طول البلاد وعرضها.
عالم آخر :السـلطـان وشوارع بغـداد الخلفيــة
نشر في: 18 فبراير, 2012: 10:06 م