TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > فــــارزة: النخلة السامقة في موقع الانفجار

فــــارزة: النخلة السامقة في موقع الانفجار

نشر في: 6 أكتوبر, 2009: 07:38 م

شاكر الأنباريفي الأسبوع الماضي كنت جالسا في الجريدة، منهمكا في كتابة عمود صغير لملحق ورق، جاءني أحد المحررين ليقول لي قرأت على الانترنيت ان هناك سيارة مفخخة انفجرت في قريتك عند الساعة العاشرة قبل الظهر، ما أدخل الوجل في قلبي. اتصلت فورا بابن أخي مصطفى المقيم مع أبيه هناك.
ولأن الاشارة غير جيدة جاءني صوت مصطفى متقطعا، ولكنني فهمت منه أن الارهابي حاول الدخول الى مركز شرطة القرية ليفجر سيارته في المركز. كانت الحصيلة موت أربعة فقط من أبناء القرية، والارهابي أيضا. كانت بيوت أخوتي محيطة بالمركز، وعددها ثلاثة. لدى زيارتي أول ما جذب انتباهي هو أن كل شبابيك بيوت أخوتي قد تكسرت. وكانوا يجمعون الزجاج من الأرضيات، وعانى عدد من الأطفال من لسع الشظايا الزجاجية المتناثرة حول البيت. بيت أخي الأقرب الى مركز الشرطة أصابه التصدع في أكثر من جدار ومكان. ولولا الغرفتان اللتان شكلتا عائقا أمام عصف الانفجار لسقط البيت على رؤوس قاطنيه، وكانا في تلك اللحظة أخي وزوجته فقط، أما الأولاد فكانوا في المدرسة. لذلك كانت القرية اشبه بمأتم بعد الانفجار. فمن بين القتلى شاب تخرج من الثانوية وجاء الى المركز ليبشر أخاه الشرطي بنجاحه، وتصادف أن يكون هذا الفتى قرب عناصر التفتيش حين هجمت سيارة النقل الصغيرة على المركز، فقتل خريج الثانوية بينما نجا اخوه. كانت السيارة محملة بسخانات ملغومة بال(سي فور) شديد الانفجار، حيث سمع الانفجار في دائرة قطرها عشرة كيلومترات تقريبا. يقول ابن اخي الآخر أحمد انهم كانوا في المدرسة حين حدث الانفجار. ورأوا الغمامة السوداء تتصاعد من جهة المركز. خرجوا مذعورين من المدرسة، وقال أحمد انه ركب دراجته الهوائية وامتلأ بالرعب من ان يكون احد من اخوته الصغار أو أبويه أصيب بالحادث. قال: حين وصلت البيوت ذهلت من كثرة الشظايا التي تناثرت على محيط مئتي متر تقريبا. كما تناثرت اشلاء اللحم البشري على المحيط ذاته. المفارقة أن المتجمهرين قرب المركز والبيوت كانوا يبصقون على نصف جثة (مشمورة) جنب الجامع، معتقدين انه الارهابي ذاته. لكنهم بعد دقائق، وعبر أشخاص يعرفون الضحية تبين ان البقايا للشرطي ياسر محمود، لذلك، وكما يضيف احمد(عمره 16 سنة)، قضينا انا وأصدقائي ساعات في تجميع اللحم المتناثر بين سعف النخيل، وعلى ثيل الحديقة، وفي مدارج الطرقات. امام بيت عمي وجدوا لفة من الأمعاء ملوثة بالعشب والتراب، وضعها أحمد في كيس اسود من البلاستك ودفنها في الحقل المجاور لمركز الشرطة. أمي ذكرت انها وجدت يد طفل صغير بين العشب دسته في كيس وأرسلته الى المركز علّهم يعرفون صاحبها. قيل ان الارهابي كان برفقته صبي صغير لتضليل السيطرات، الا أن البعض الآخر أنكر الرواية. السخانات المحشوة بالسي فور موضوعة عموديا، ذكر البعض. بينما أكد آخرون أنها كانت ملقاة على أرضية السيارة بشكل أفقي، وهو أمر غير مألوف في نقل السخانات. في الأصيل، وكان الخريف يتمطى على سعف النخيل، ويجعل لمياه الفرات منظرا حلميا، خرجت أربعة توابيت من القرية متجهة نحو المقبرة. ويحدثني ابن أخي مصطفى، وقد حضر الدفن، ان واحدا من الشرطة لم يبق منه سوى الجزء الأعلى من الجثة فاضطروا الى وضع عصوين من الصفصاف في القبر لتكملة الجسد، حسب فتوى شرعية بهذا الخصوص على ما يبدو. القبور حفرت في نسق واحد وزينت بالزهور الاصطناعية. وبكت النساء كما لو كن يبكين ابناءهن وأزواجهن. اما الارهابي فلم يجدوا له اثرا، ولجنة التحقيق البسيطة فشلت في العثور على قرائن حوله. لكن بعض النسوة في ليلة الانفجار، وبعد المأتم الموحد الذي اقيم للضحايا، تحدثن عن العثور على عينين تحت شجرة نخيل. وعلى جزء من جمجمة كانت معلقة وسط شجرة التين في بيت الحاجة حبسة. ومن كل ذلك كان الجميع يتساءل بغرابة عن جدوى هذه العملية. المركز يقوم وسط مجموعة من البيوت السكنية، وفي هذه البيوت عشرات الأطفال. ما الجدوى اذن من ترويع نساء وأطفال وشيوخ بهذه الطريقة؟ وما العبرة من تفجير مروع بهذا الشكل؟ هل يعتقد مخططوه أنه سيغير الخارطة السياسية مثلا، او يردع الشباب من التطوع في الشرطة والجيش؟  او يجلب التعاطف مع تنظيم القاعدة، كون التنظيم حوّل قرية كاملة تعدادها اكثر من اربعة آلاف نسمة الى مأتم كبير؟ أم أن ثمة من يستغيث، يأسا، ليقول انني هنا بأي طريقة ووسيلة حتى لو كانت مادة السي فور؟ وما ذنب النخلة السامقة، في موقع الانفجار، النخلة التي رأيتها محترقة حتى قلبها البض نتيجة العصف؟ هذه الأسئلة قيلت في قاعة التعزية الملحقة بالجامع، وفي بيوت القتلى، ولاحقا في الفسحات الريفية التي يجلس فيها الكهول بعد العصر. تكلم بها أيضا الزبائن الموجودون في سوق القرية، والمتسكعون على ضفاف الفرات متأملين هطول الخريف على الحقول. وحتى وقت مغادرتي القرية، ورجوعي الى بغداد، لم يعثر أحد على جواب مقنع لتلك التساؤلات.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram