أحمد عبد الحسين يفتقر ساسة العراق إلى الخيال، لا يأتون بجديد وليس لديهم ما يستحقّ أن يشاهَد أو يستَمَع، كلّ ما يأتون به من أفعال وأقوال محض إعدادات ثانوية للدفاع عن مواقع أقدامهم، ولكنهم مع ذلك يريدون أن تظلّ عيوننا معلّقة إلى أشخاصهم وآذاننا مشدودة إلى التقاط همسهم وزعيقهم. شأنهم شأن شاعرٍ لا ينطوي على معنى جديد لكنه يرهق اللغة ويرهقنا ليبقى مرئياً مسموعاً على الدوام.
غياب المعنى يلجئ صاحبه للاستنجاد بالبلاغة، كما أن غياب البرهان يلجئنا لزركشة كلامنا بالمطيبات والمحسنات اللفظية، فنكون بذلك شعراء سيئين، كما عبّر عن ذلك نورثروب فراي القائل "في الحياة اليومية كلنا شعراء سيئون".وبالفعل نحن نستخدم أدوات الشاعر كلها تقريباً، اللغة والخيال والبلاغة، البلاغة خصوصاً التي تعني أن المتكلم لا يريد الحقيقة قدر إرادته قولَ كلام مناسب في وقت مناسب بأداة مناسبة. نحن ننشد البلاغة لا الحقيقة، وإن كان لفظ "الحقيقة" و"الواقع" مبتدأ هذرنا اليوميّ ومنتهاه.كلام الناس رطانات بليغة يراد منها التعمية على الحقّ والصدق أو إفراغهما من محتوياتهما، خذ الخطاب السياسيّ مثلاً، إنه أكوام من المجازات والاستعارات الغرض الأساس المطلوب منها هو خلق نفوذ وجزم ويقين لأقوالهم، يرومون تكييف أعمالهم ـ التي هي غالباً محشوة بالسوء والتقصير والخداع والفساد ـ بكلام فيه البلاغة التقليدية التي تلهي السامعين عما يحدث لتجعله مشدوداً إلى ما يقال.ماذا فهمتم أمس من خطاب السيّد الهاشميّ؟ الخطاب الذي أراده تأريخياً كاشفاً ملابسات قضية قانونية هي الأخطر بعد محاكمة صدام، لا جديد، لم يسعفه خياله السياسيّ المحدود "شأنه شأن خيال زملائه من حلفاء وخصومٍ" في إنشاء خطاب متماسك ذي لبّ، فلا هو أقرّ بالجرم، ولا هو دفع ببراءته واستعدّ للمثول أمام القضاء، ولا هو دافع عن جماعته، ولا هو ألقى بالتهمة عليهم، بل بقسمات وجه مذعور شائه وبلاغةٍ تقليدية، حاول رصف كلمات القوّة والشجاعة والشكيمة والبأس ليكون قوياً فظهرت النتيجة ضعفاً بيّناً لرجل مهزوم حتى قبل أن يخوض الحرب.ليس ضعف الهاشميّ إقراراً بالتهم المنسوبة إليه بالضرورة، لكنه بالتأكيد نتاج قلّة خيال، وتمثيل لإرث من الخطب الرنانة " خطب صدام مثلاً" التي تتستر على خواء، ومرة أخرى كشف خطاب الهاشميّ كم أن السيّد المالكي محظوظ بخصوم كهؤلاء، وكم أن السياسة عندنا أشبه شيء بشعر تافه خالٍ من المعنى.تصوروا أن يقول سياسيّ كبير مطلوب للمحاكمة كلاماً كهذا " أنا ضدّ قرارات حكم الإعدام ..." كان ينقصه أن يضيف " بما فيها حكم الإعدام الذي سيصدر ـ بإذن الله ـ بحقي.." ليكتمل اللغو.كثيرون نصحوا السيّد الهاشميّ بتسليم نفسه، هل يسمح لي الآن بالانضمام إليهم، وإذا كان يعتقد أن القضاء مسيّس وجب عليه الفرار والصمت صمتاً أبدياً لأنه أبلغ من هذه الخطب الفارغة.
قرطاس :في نقد اللغو المحض
نشر في: 20 فبراير, 2012: 08:24 م