TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > أحاديث شفوية: إثارة..ورتابة

أحاديث شفوية: إثارة..ورتابة

نشر في: 20 فبراير, 2012: 10:48 م

 احمد المهناكنت في إحدى التجارب مسؤولا بمفردي عن تعبئة الصفحات الثلاث الأول من صحيفة عربية. وفي كل صباح كنت أبدأ العمل شاعرا ان في داخلي مئة شمعة ضاوية، وانتهي من العمل خاليا من كل شعور بشمعة واحدة مضاءة. ان امامك ثلاث صفحات بيضاء فارغة كل صباح، وعليك ترسها بالأخبار والتقارير والتحقيقات والصور كل مساء.
ويا للراحة، اذا قلبت الصفحات صباح اليوم التالي وكانت أمورها على ما يرام. عندها تضاء في داخلك مئة شمعة من جديد. ثم يا للمشقة مع بدء دورة المسيرة اليومية المعتادة لإطفائها شمعة شمعة الى الآخر عند إقفال الجريدة. في طريقة العمل هذه تجديد وتمويت. فكم خلية في المخ تنمو وتحيا بمثل هذا التحدي اليومي، وكم خلية في المخ أو في غيره ترهق وتموت. "انهم يقتلون الجياد" بهذه الطريقة. فما يغيب عنها هو الفرح. والعمل الطيب قرين الفرح. الفرح هو الباعث على اكساب المواد الصحفية حيويتها. فهو يقود الى التفاعل معها، دهشة، او استغرابا، أو ألما، أو حبا: أي كل ما نوجزه بالإثارة. الصحفي يجب أن لا يعتاد على مواد ووسائل عمله، لأن الاعتياد في كل عمل وصفة للقضاء على روحه. ان لكل مادة صحفية، من الخبر الى الفيلم الوثائقي، روحا ما، وان مهمة الصحفي هي اكتشافها، وعرضها بطريقة يستشعرها المتلقي. ان قواعد المهنة مهمة جدا، لكنها وحدها لا تستجلي تلك الروح، وهذه الروح لا تتكشف ايضا من دون هضم القواعد واستيعابها. وحده الشغف بالمهنة يفعل ذلك. ويبدو ان التجارب الصحفية في العالم العربي تعرف مثل هذا الشغف، وهذه الإثارة، كلما ابتعدت عن الحكومات والأحزاب، وشاخت وترهلت اقتربت منها. وقد سلكت طريق الإثارة في بعض التجارب، كما مشيت في دروب الرتابة. والإثارة تلد الشغف وهو صنو الإعلام الحر الذي نهفو اليه. وأذكر من تجاربي في الصحافة الرتيبة انني عندما بدأت العمل في احدى الصحف نبهتني زميلة مخلصة، من أجل سلامتي النفسية في وسط يتوجس من الهمة والجدية، الى ضرورة الاقتصاد في اظهار مهارتي! وهي دعوة لأن أعمل لأعيش، في حين المطلوب من الصحفي أن يعيش ليعمل. فالصحافة طريقة حياة. وكنت احيانا انسى تلك النصيحة فأرتكب الحماسة في ذلك الوسط المحكوم بالرتابة. مثلا أنهض من الكرسي بغتة وأقول: الله ما أروعك يا أنعام كججي! ثم أنظر حولي وأعود الى مقعدي، ثابتا كجلمود صخر. أعتقل الحماس وأقول لأنعام في سري: موادك دائمة الجمال والكمال يا سيدة. كانت تراسل من بلد آخر غير الذي تصدر منه تلك الجريدة. هذه السيدة، التي التقيتها مرة واحدة، صحفية من طراز نادر حقا في العالم العربي. فاذا صادف أنك محرر وجاءتك منها مواد ولم تنفعل بها أو تحبها فالزم الباب أحسن للجميع! أما اذا لم يسمح مكان عملك بانفعالك بالظهور فتستر عليه واحتفظ به وارعه ثم اطلق سراحه عندما تتحرر.والصحافة الحقة ابنة الحرية. وبغياب ملكوت الحرية تغيب عنها الفرحة. وكل عمل بشري من دون مسرة دليل غربة وطريق وحشة.وباطل ثم باطل كل جهد وكل كد يسبب التعاسة!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram